"كيانات مفترسة" (1) عن فولكسفاغن: إلى أين تقودنا الأرانب الألمانية؟

"كيانات مفترسة" (1) عن صانعة السيارات فولكسفاغن: إلى أين تقودنا الأرانب الألمانية؟

09 يناير 2024
استعراض لسيارات فولكسفاغن قديمة أُقيم في بوليفيا عام 2023 (Getty)
+ الخط -

تتناول الحلقة الأولى من سلسلة "كيانات مفترسة" أبرز شركات صناعة السيارات الألمانية، فولكسفاغن ـ حكاية نشأتها زمن النازية، مرورًا بصعودها ونجاحها مع مختلف التحولات الرأسمالية، في محاولة لفهم ارتباطاتها بإسرائيل*.


تماماً مثل دول كثيرة لا تتورّع عن كشف دعمها اللامشروط لإسرائيل، تقف شركات وعلامات تجارية عالمية لتقوّي شوكة دولة الاحتلال في حربها على الفلسطينيين. فمن أجل المصالح الاقتصادية لا يرفّ جفن لهذه الشركات، وهي تدوس القيم الإنسانية دون رحمة.

وكما فعلت الإمبراطوريات في القرن التاسع عشر، قسّمت هذه الشركات عالم اليوم بينها، فجعلته مثل حوانيت تبيع كلّ شيء: المأكل والمشرب والزينة والصحة والرفاهة والترفيه (...). وحين نراها تنحاز بشكل سافر ضدّ الحق الفلسطيني، نفهم كم نحن محاصرون من كل جانب.

 لم تكن الحرب على غزة إلا مناسبة جديدة كي تسقط الأقنعة الملوّنة التي ترتديها الوحوش. مناسبة كي نعود إلى تشكّل هذه الشركات وتطوّرها وأسباب قوتها، والأدوار التي تلعبها معنا وضدّنا: تؤمّن من جهة كل حاجاتنا، ومن جهة أخرى تُغرقنا في ثقافة الاستهلاك وتناصر الطغيان والظلم وتدمّر الكوكب.

حين تتأمّل هذه السلسلة مسارات الشركات التي تصنع كل شيء حولنا، إنما هي تتأمّل كيف تتشكّل حياتُنا، كيف تتحوّل المنتجات إلى أطواق حول أعناقنا. "من لا يتحرّكون، لا يلاحظون أغلالهم"، قالت روزا لوكسمبورغ منذ قرن تقريباً، وكذلك من لم يُقصف إخوانهم لن يشعروا بالألم الذي طالما خدرته الملذات.

تحتاج الشركات الكبرى إلى استدامة دائرة الاستهلاك وتخدير الشعور إلى ما لا نهاية، وبعد ذلك علينا ألا نستغرب أن يغفل عالم المال -أو يتغافل- عن حقيقة الجريمة الصهيونية في فلسطين. كيف يمكن التعايش مع كيانات تحوّلت إلى وحوش تمزّق بأسنانها اللحم البشري، وتعمل على تنويمه في ذات الوقت، ويحدث أيضاً أن تذرف الدموع... لكن على المُعتدين!


لم تتأخر شركات صناعة السيارات الألمانية في إعلان دعمها للكيان الصهيوني، منذ الساعات الأولى ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، في تناغم مع الموقف الرسمي لألمانيا. كثيراً ما يُختصر تفسير هذه المواقف بعقدة الذنب تجاه اليهود، لكن مصالح وحسابات أعقد تُظهر أن الهولوكوست ليست سوى شمّاعة تخفي وراءها ارتباطاً أعمق بين المهندس الألماني وجندي جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو ذلك ما يقوله تاريخ صناعة السيارات الألمانية...

بعد أيام قليلة من 7 أكتوبر، سارعت كبريات شركات صناعة السيارات بشراء مساحات إعلانية في أكثر الصحف رواجاً في ألمانيا لتؤكد على تضامنها المطلق مع دولة الاحتلال، وتعيد التذكير على ما تسمّيه بـ"الوعي بالمسؤولية التاريخية" لألمانيا، وفق عبارة وردت في البيان المرافق للإعلان. وسنجد انتظاراً في إسرائيل لمثل هذا الدعم المعنوي (تجري تغطيته في صحافة الاحتلال) خصوصاً من الشركات الأساسية كفولكسفاغن باعتبارها تقف على قمة صناعة السيارات عالمياً.
 
إعلان نُشر على صفحة كاملة من جرائد ألمانية عدة وأوردته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"
إعلان نُشر على صفحة كاملة من جرائد ألمانية عدة وأوردته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"
 

صناعة ألمانيا أولاً

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وضعت صناعة السيارات ألمانيا في قلب التاريخ، كما لم تفعل ذلك عبقريات الفلسفة والموسيقى والرياضيات. بسبب التأخّر عن بلوغ نموذج الدولة-الأمة، تخلّف البلد عن المرحلة الاستعمارية فلم يبقَ له غير الفتات على مائدة القوى المجاورة، ولكن الروح الألمانية كانت قد راكمت المعارف والمهارات التي جعلتها خلال بضعة عقود تعوّض تأخّرها في الثورة الصناعية، وقد جعلت من الميكانيكا رافعتها الأساسية.

صادف ذلك تحقيق الوحدة، وبعدها يمكن تفسير كل تحركات ألمانيا الجيوسياسية في القرن العشرين، في ضوء الفارق بين القدرات التي تحت تصرّف الدولة والنخب، وبين موقعها في "لعبة الأمم".

على أكتاف مهندسين شباب، قامت ورشات تصنيع السيارات الأولى التي يستمر معظمها اليوم كعلامات عملاقة: بي أم دابليو، مرسيدس، أودي (...). من البداية، لم تكن شهية هذه العلامات لتكتفي بأسواق تمنّ بها عليها فرنسا أو بريطانيا اللتين تهيمنان على معظم العالم وهو ينتقل بين قرنين. ولقد كان وجود مثل هؤلاء الطموحين بعائدات جديرة بمواهبهم ضغطاً على الطبقة السياسية كي تأخذ لألمانيا الموقع الذي تستحقه. لم يشتغل هذا الطموح بكامل طاقته إلا مع صعود النازية التي مهّدت لها الطريق هزيمة الحرب العالمية الأولى وسوء معالجة نظام فايمار للأزمات الاقتصادية.

لا تزال أسماء الرجال الذين ذهبوا بعيداً بصناعة السيارات الألمانية بارزة إلى اليوم: غوتليب دايملر وكارل بينز وأوغوست هورش وفرديناند بورشه. الأخير، تقاطع مع أكثر من مشروع قبل أن يفكّر في إطلاق شركة تصنيع سيّارات باسم أسرته.

في 1933، تلقى دعوة من أحد معجبيه لتنفيذ فكرة سيارة منخفضة التكلفة. لم يكن ذلك المعجب غير الرجل الذي بات يحتكر السلطة في ألمانيا وقتها؛ أدولف هتلر. كان المستشار الألماني يحلم بسيارة تكون ورقة رابحة للبروباغندا النازية. وضع بعض الخربشات كتصوّر لها. وحين تهيّأت له أسباب الحكم، استدعى أحد أبرز رجال صناعة السيارات، وطلب منه تنفيذ حلمه الذي لم يكن بعيداً عن أحلام تسكن رأس المهندس بدمقرطة امتلاك السيارات.

فرديناند بورشه يقدّم لهتلر أول نموذج لفولكسفاغن (Getty)

بين سنتي 1936 و1937 بدأ تنفيذ فكرة فولكسفاغن (سيارة الشعب) بشكلها المكوّر الغريب الذي جلب لها لقب "الخنفساء". ولنجاح السيارة الجديدة تهيّأ كل شيء: دعم مالي سخيّ من الدولة، وانبعثت مدينة كاملة، فولسبورغ، لتؤوي العمّال، وأقيمت الطرقات السيارة على نحو يجعل المواطن الألماني قادراً على الوصول سريعاً إلى أي مدينة في بلاده، وبالتالي راغباً أكثر في شراء السيارة الأكثر اقتصادية. وحتى حين ذهبت الحرب العالمية الثانية بكل هذه البنية التحتية، استُغِلّ الدمار لبناء مدن على مقاس صناعة السيارات الألمانية.

دائماً، كان كل شيء يبدو وقد تهيّأ ليكون في خدمة فولكسفاغن وتطوّرها. حتى عقاب الحلفاء لألمانيا المهزومة كان خفيفاً على "حلم هتلر" هذا. لقد خدمت فولكسفاغن -مثل بقية الشركات- حلم الرايخ الثالث، وساهمت مباشرةً في التصنيع الحربي. وكان على قطاع السيارات برمّته أن يدفع ثمناً مضاعفاً نظير تورّطه في الدم أكثر من أي قطاع آخر.

فولكسفاغن.. الخنفساء تخرج من الرماد

لم يكن ارتباط فرديناند بورشه بالنازية يحتاج إلى إثبات. بل هو أحد رموزها، ولم تمرّ سنة 1945 حتى اعتُقل. ولكن بدل المرور إلى محاكمات نورمبرغ، بدا أن المهندس الألماني قد نجح في دخول مسار آخر بإبرام صفقة تنقذ حياته وسمعته. بل أكثر من ذلك، تنقذ مشاريع العمر؛ مؤسسة بورشه العائلية، وحلم "سيارة الشعب".

كان النازيون قد اختاروا منطقة في وسط ألمانيا لإنشاء مصانع فولكسفاغن. ستكون هذه المنطقة ضمن منطقة النفوذ البريطانية ما بعد الحرب. وفيما ذهبت مصانع العلامات الأخرى إلى التدمير شبه الكامل، حافظت فولكسفاغن على معظم بنيتها التحتية. فكّر القادة الإنكليز في استثمار نجاحات تجربة فولكسفاغن لإعادة تدوير صناعة السيارات البريطانية، غير أن أصحاب الشركات البريطانية رفضوا استلام الشركة بكثير من الترفّع.

وللحفاظ على "الخنفساء" التي تبيض ذهباً، لمعت فكرة عقد صفقة مع السيد بورشه. في عام 1947، انقشع الفرح بالنصر، وبدأت تظهر ملامح حرب باردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وستكون ألمانيا بؤرتها، لذا ينبغي على الحلفاء حماية القدرات التنافسية لدولة ألمانيا الغربية في المجال الصناعي. فولكسفاغن فعلت أكثر من المشاركة في هذا الرهان، لقد تحوّلت إلى واحدة من أهم رافعات "المعجزة الاقتصادية الألمانية".

فرديناند بورشه  (Getty)

دُعي فرديناند بورشه من سجنه وطُلب منه أن يتعاون في إعادة تشغيل فولكسفاغن. لنا أن نتخيّل رجلاً تحطّمت طموحاته ولا يملك غير التعاون لينقذ حياته، إما أن يكون مجرم حرب، وإما أن يعود مهندساً أسطورياً. تلك الصفقة تستمر كل يوم في تاريخ ألمانيا. قِس على حكاية فرديناند بورشه مئات المهندسين ورجال الأعمال وكل من يملك أسرار صنعته: إما الفناء وإما الانبعاث برأسمال النظام العالمي الجديد وتحت شروطه. نظام عالمي من ركائزه التفوّق الأميركي أقصى الغرب وزراعة الحليف الإسرائيلي في قلب الشرق. 

كانت حكايات الهولوكوست تقف كخلفية للصفقة بين العبقرية الألمانية والمنظومة الرأسمالية لما بعد الحرب. لم يكن وارداً أن بورشه ممّن سيؤنّبه ضميره على مشاركته الضمنية في حصد آلاف الأرواح، فقد سبق أن وضع جهوده ببساطة في خدمة آلة الموت النازية. وكلما التقت المصالح بهذا الشكل الذي يبدو فيه الجميع رابحاً (نعرف اليوم من يدفع ثمن تلك الصفقة)، تعمى العقول والقلوب والضمائر غالباً.

تكنولوجيا الافتراس

توفي فرديناند بورشه عام 1951 بعد أن أعاد أحلامه إلى الحياة. أورث أبناءه شركتين عملاقتين ستدخلان صراعاً سيستمر لأجيال أخرى من أجل عودة كل تركة بورشه تحت إدارة واحدة. كانت فولكسفاغن الأخت الصغرى، ليس فقط داخل أسرة بورشه، بل ضمن مشهد صناعة السيارات الألمانية، لكنها وجدت الطريق مفتوحاً أمامها كي تتحول خلال ثلاثة عقود إلى أكبر مصنّع ألماني للسيارات.

سينتهي الصراع العائلي في 2009، حين وضعت فولكسفاغن يدها على أسهم بورشه، لكن حدث ذلك بعد خطوات أخرى عرفت فيها كيف تضمّ إليها عملاقاً مثل "أودي" في 1964. وفي 1986 ابتلعت شركة "سيات" الإسبانية، وفي 1991 امتدت يدها إلى "شكودا" التشيكية، وفي 1998 التهمت في مرة واحدة شركتَي "لومبرغيني" و"دوكاتي" الإيطاليتين، وشركة "بنتلي" الإنكليزية. لم يكن ما فعلته فولكسفاغن من بسط لهيمنتها إلا بعضاً من الأحلام النازية، وقد تحقّقت بأشكال أخرى غير الحرب.

فولكسفاغن والماركات التي استحوذت عليها (Getty)

في نهاية القرن العشرين، كانت فولكسفاغن أهم مجموعة سيارات في العالم من حيث رقم المبيعات ومن حيث حضور منشآتها التصنيعية في العالم. لم يهزّ عرشها إلا صعود الضغط الإيكولوجي الذي بدأ يجبرها -كمجمل مُصنّعي السيارات- على تعديل أوتار التصنيع. لم يعد من الممكن الإبقاء على  نموذج المحركات التي تعمل بالوقود، نظراً لكلفتها البيئية الباهضة، لكن هذا النموذج هو الذي وضع فولكسفاغن في القمة، فهل يمكن التخلي عنه ببساطة؟

بدت فولكسفاغن مرنة في قبول شروط اللعبة الجديدة، وأوهمت العالم بأنها طوّعت تكنولوجيتها نحو محركات أقل تأثيراً في البيئة، لكن في 2008 انفجرت فضيحة حين اكتشف المراقبون أن فولكسفاغن لم تغيّر كثيراً من هندسة محركاتها، بل لعبت في اللواقط، بحيث تزيّف الرقم المسجّل للانبعاثات الغازية من سياراتها. تبيّن أن الشركة الألمانية لم يهمّها غير مراوغة الدعوات بوقف تدمير الكوكب، كان هدفها الوحيد مواصلة السير في النموذج الربحي الذي طوّرته إلى أبعد نقطة ممكنة.

بشكل ما، تجيب تلك الفضيحة التي هزّت صورة فولكسفاغن عن سرّ تجدّد التعاقد بين صناعة السيارات الألمانية وإسرائيل. فالرابحون من الوضع القائم يحاولون تجديد كل العوامل التي أسست لنجاحهم، ومنها الإبقاء على التحالفات نفسها. فالشركة التي التهمت أخواتها لا تعترف إلا بحلفاء ضمن المنظومة العالمية القائمة، ولو كانوا دولة الاحتلال.

ما يهمها، تأمين الاستمرارية في تجديد الأرباح ومضاعفتها، وحماية مسارات الإمداد بالطاقة الأحفورية التي تدافع عليها بكل طاقتها لأنها ببساطة قد صنعت أمجادها. تتعاقد فولكسفاغن مع الرابح دائماً، أكان نازياً أم صهيونياً أم أي شيء آخر.

ديكتاتوريات وأرانب

كثيرة هذه التحالفات التي عقدتها فولكسفاغن، ومن دونها لم تكن لتأخذ الموقع الذي وصلت إليه. ربما استفادت من تراجع منافساتها في ألمانيا لأسباب إدارية أو إصرار بعضها على أبهة الصورة بالاستثمار في رفاهية السيارات ونخبويتها. كانت فولكسفاغن دائماً قريبة من فكرتها الأولى؛ سيارة الشعب، وحين أتمّت تلبية رغبات الشعب الألماني، نظرت إلى رغبات شعوب العالم الأخرى، وبالتالي الوصول إلى أسواقها.

في منتصف السبعينيات، تفاجأ كثيرون من إنهاء تصنيع "الخنفساء"، كيف يمكن التفكير في إغلاق حنفية الأموال المفتوحة منذ عقود. لم تكن هناك مؤشرات على تراجع الطلب على السيارة الألمانية الأشهر. كان فهماً متقدماً للسوق، فالمخيال الذي يصنع الرغبة في امتلاك السيارات قد تغذّى بروافد جديدة؛ السينما الملونة والتلفزيون وثقافة السوبرماركت، ولذلك اخترعت فولكسفاغن موديلاً جديداً يستجيد للمعادلة المستحدثة...

إنها سيارة الغولف التي لُقبت بالأرنب، وقد تعدّدت أجيالها، مُعبّرة عن إنصات عميق إلى تطوّر فكرة السيارة في نفوس الناس، كما ظهرت موديلات الباسات والبولو وغيرها، وهي تنويعات تبحث عن تلبية حاجيات أخرى في أسواق العالم في عزّ ازدهارها ضمن ما يعرف بـ"الثلاثين المجيدة" التي رسّخت ثقافة استهلاكية في المجتمعات بشكل نهائي.

حقّقت الغولف نجاحات استثنائية، حتى في البلدان المصنّعة مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا. نجحت "الأرنب" في أن تُنسي السائقين في "الخنفساء" التي تحوّلت إلى أنتيكة من أزمنة غابرة. إلى يومنا هذا، تُصنّع الغولف باعتبارها واجهة مصانع الفولكسفاغن، وقد بلغت جيلها الثامن، ومن المنتظر أن يظهر منها في 2028 الجيل التاسع، معبّراً عن آخر نقطة في تطوّر تكنولوجيا صناعة السيارات.

من معرض سيارات فولكسفاغن في مدينة فولزبورغ (getty)

وهي تصل إلى أسواق العالم، كانت فولكسفاغن تنسج التحالفات التي تتيح لها التمدّد أبعد ما يمكن. لعلّ أشهر تحالف مع دولة أنجزته فولكسفاغن، ذلك الذي عقدته مع الدكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل ما بين 1965 و1985. كانت المصانع الألمانية في جنوب القارة الأميركية تحتاج إلى يد حديدية تقمع العمّال لتحقيق أرباح أعلى وبتكلفة إنتاج أقل.

إذا كان لفولكسفاغن عقدة ذنب تجاه استغلال العمّال في البلدان الفقيرة، سنصدّق أن لها عقدة ذنب تجاه اليهود. لكن الشركة الألمانية لا تعرف إلا إنتاج السيارات. لقد وجدت الشركة الألمانية في رواية الاضطهاد اليهودية فرصة لتقول: انظروا، لديّ وجه إنساني أيضاً... ويا للسخرية! لم تؤكّد فولكسفاغن إنسانيّتها إلا بالانحياز إلى دولة الاحتلال.

صحيح توجد داخل ألمانيا فقاعة أيديولوجية تجعل من دعم إسرائيل واجباً، لا مجرّد خيار، لكن فولكسفاغن من الشركات التي تريد أن تروّج لدعمها للصهيونية بأنه مسألة مبدأ، وهناك احتفاء خاص داخل إسرائيل بدعم فولكسفاغن بالذات لما تمثّله من رمزٍ للنجاح والتفوّق. لكن كل ذلك ليس إلا تزييناً للعلاقة المنفعيّة، ففولكسفاغن -ومن ورائها صناعة السيارات الألمانية- وإسرائيل يتعاملان مع بعض باعتبارهما واقفين في الجانب نفسه من معارك العالم. كلاهما ابنُ التوزيع العالمي للنفوذ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كلاهما سليل الاقتصاد القائم على المنظور الربحي وعلى استغلال الطاقة الأحفورية، وما لم تتغيّر هذه النماذج لا شيء سيغيّر من العلاقات المعقودة بين هذه الأطراف.

تعمل إسرائيل من جانبها على استمرارية هذه العلاقة بهذا الشكل، فقد رتّبت سياساتها بحيث يتواصل هذا التعاقد مع فولكسفاغن ومثيلاتها: استثمرت في تكنولوجيات دقيقة تصنّع في مستوطناتها، وروّجت لموقعها الجغرافي بحيث تكون الضامن في المنطقة الأكثر أهمية في مسارات إمداد الطاقة لصناعة السيارات. وأما ألمانيا، فكما علمنا أنها تدين بالكثير لصناعة السيارات، فهي تفعل أي شيء لضمان مصالح فولكسفاغن وأخواتها.

مخاوف خط النهاية

رغم أخطائها الكثيرة، لا تزال فولكسفاغن في المقدمة. تصدّر هذه الشركة الألمانية الكثير من الثقة في النفس، وهو ما يعبّر عنه شعارها: "فولكسفاغن.. السيارة"، الذي يتضمّن اعتقاداً بأن تاريخ فولكسفاغن إنما هو تاريخ صناعة السيارات برمته. بعد فضائح التزوير في الانبعاثات، اخترعت الشركة شعاراً جديداً (2019) حتى مرور العاصفة: "يمكن أن تشكّ في كل شيء إلا في الفولكسفاغن التي تملكها".

بلا شك، كانت فولكسفاغن ولا تزال قصة نجاح، غير أن لمعان قصص النجاح كثيراً ما يطمس الكثير من الحقائق؛ منها تلك المتعلقة بكيفية تأمين أسواقها، وخصوصاً مستقبلها. في هذه الفترة، يضيق أكثر الخناق الإيكولوجي على صناعة السيارات الألمانية، وحين تنظر فولكسفاغن في التحوّلات القادمة سينقبض قلبها بالتأكيد، فقد تقدّمت أمم أخرى، أبرزها الصين، في تقنيات السيارات الكهربائية.

لقد ظهرت كائنات أخرى تنافس الخنافس والأرانب الألمانية. صحيح أن فولكسفاغن تغلبت على كثير منها خلال العقود الماضية، فقد نجحت في الصمود أمام الصناعة الأميركية التي أرادت أن تحوّل أوروبا إلى سوق لمصانعها بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تغرقها موجة مصنّعي السيارات اليابانية في الثمانينيات، لكنها هل ستنجح دائماً في النجاة والبقاء في القمة؟ خصوصاً أن هذا النجاح مرتبط ببقاء العالم بالخرائط والمسالك والتحالفات نفسها التي صنعت نجاح العقود الماضية. ولم يكن تهافت فولكسفاغن للتعبير عن دعمها لإسرائيل المترنّحة بعد السابع من أكتوبر 2023 إلا تعبيرة أخرى عن هذه التخوّفات التي تسكنها. 

أخيراً، إن تساءلنا: إلى أين تقودنا الأرانب الألمانية، فنحن ندرك أنها لا تريد إلا أن يستمر العالم في السير بالاتجاه نفسه الذي يسير فيه منذ عقود، بحيث تحافظ على امتيازاتها ومكاسبها. ولقد كانت الخنافس تفكّر بالطريقة نفسها. لو استطاعت لأبقتنا في منتصف القرن العشرين. إنها تريد أن تستمر المعادلات التي تحرّك العالم كما هي، ولو كانت الطريق السيارة التي تقطعها بنا تؤدي إلى الهاوية...

* جزء من سلسلة مقالات بعنوان "كيانات مفترسة" تتناول الشركات العملاقة، نشأتها وصعودها وارتباطاتها بإسرائيل.

المساهمون