حتى الآن، من الصعب حساب الخسائر المتوقعة من التفشي السريع لموجة كورونا الثانية في الهند، لكنّ محللين يتوقعون أن تكون للجائحة المتحورة تداعيات خطيرة على دورة انتعاش الاقتصادي العالمي وأسعار النفط والطاقة والسلع الرئيسية.
وتواجه الهند التي يقترب عدد سكانها من 1.4 مليار نسمة، أي أنّها ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان بعد الصين، الموجة الثانية من جائحة كورونا في وقت بدأ فيه الاقتصاد العالمي دورة انتعاش جزئية نحو الخروج التدريجي من الجائحة مع تراجع الإصابات والوفيات، أو على الأقل نجحت بعض الدول في محاصرة تمدد الفيروس.
وحتى السبت الماضي، سجلت الهند عدداً قياسياً جديداً من الإصابات بلغ أكثر من 400 ألف إصابة جديدة بفيروس كورونا خلال 24 ساعة، كما سجلت حوالي 3523 وفاة في يوم واحد، وهو ما يرفع حصيلة الوفيات الإجمالية إلى 211 ألفاً و843 وفاة.
إلاّ أنّ عدداً من الخبراء والمتابعين يرون أنّ العدد الفعلي للوفيات والاصابات أكبر بكثير، إذ إنّ عدد الفحوص ليس كافياً، كما أنّ أسباب الوفاة لا تسجل بدقة وفقاً لوكالة "فرانس برس".
ويأتي قلق الغرب من تداعيات تفشي كورونا في الهند لأسباب عدة، بعضها استراتيجي ويتعلق جانب منه بالصراع بين المعسكر الرأسمالي مع الصين الذي تقوده الولايات المتحدة ويعول على التحالف الاقتصادي والسياسي مع دول عدة بآسيا، منها الهند، رغم الثوب الإنساني الناعم الذي تغطى به المساعدات الطبية.
تعدّ الهند ثالث أكبر مستهلك للنفط ومشتقاته في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. وتستهلك الهند أكثر من 5 ملايين برميل يومياً من النفط.
لكن، على الصعيد الاقتصادي، يمكن النظر إلى 4 تداعيات سالبة رئيسية ترفع القلق الغربي على التعافي الاقتصادي العالمي جراء تفشي الوباء السريع في الهند. وهذه العوامل كما يرصدها محللون، أولها أنّ العالم سيخسر جزءاً كبيراً من معدل النمو الاقتصادي الهندي الذي يتراوح بين 4% و8% خلال العام الجاري.
ويقدّر حجم الاقتصاد الهندي بنحو 2.86 ترليون دولار وفق أحدث البيانات، كما أنّ الهند سادس دولة عالمياً من حيث حجم القوة الشرائية. وتفوق قوتها الشرائية 1.7 ترليون دولار في السنة.
ويعد السؤال الذي يقلق العالم حالياً، خصوصاً منظمة الصحة العالمية، هو: كيف يمكن التعامل مع بلد بحجم الهند في حال عدم القدرة على السيطرة على الموجة الثانية من الجائحة في البلاد؟ وهل من الممكن عزل بلد بحجم الهند عن العالم لفترة؟
أما العامل الثاني من التداعيات السالبة على العالم فهو النقص المتوقع عالمياً من الأدوية والمنتجات الطبية والمواد الصيدلانية بسبب تعطل الإنتاج في الهند في حال لم تتم السيطرة على الفيروس، إذ إنّ صناعة الأدوية الهندية تعد ثالث أكبر صناعة أدوية في العالم لجهة الحجم وتحتل المرتبة 11 عالمياً لجهة القيمة.
وتعادل صناعة الأدوية الهندية نحو 3.5% من إجمالي صادرات الأدوية في العالم، وذلك وفقاً لبيانات نشرة "كونفرزيشن" الأميركية.
أما العامل الثالث من السلبيات، فهو أنّ بعض الشركات الغربية تنتج بعض السلع في الهند، كما أنّ العديد من الشركات الغربية الكبرى في أميركا وأوروبا تنفذ العديد من العمليات الخدماتية في الهند لأسباب رخص الكلفة.
ومثال على ذلك، فإنّ تجارة الخدمات بين أوروبا والهند نمت بخطوات سريعة خلال السنوات الأخيرة، إذ إنّ بيانات اليورو تشير إلى أنّ حجم تجارة الخدمات نما من 22.3 مليار يورو عام 2015 إلى نحو 29.6 مليار يورو عام 2018. وعلى الصعيد الأميركي والياباني، فإنّ خطط تحويل بعض الصناعات من الصين إلى الهند ضمن خطط محاصرة التمدد التجاري الصيني سوف تتأجل بسبب هذه الجائحة.
صناعة الأدوية الهندية ثالث أكبر صناعة أدوية في العالم لجهة الحجم وتحتل المرتبة 11 عالمياً لجهة القيمة، وتعادل نحو 3.5% من إجمالي صادرات الأدوية في العالم
رابعاً، باتت الهند، منذ ظهور جائحة كورونا، من بين الدول الرئيسية في إنتاج اللقاحات، إذ تتجه الهند لتصبح منتجاً لنحو 70% من اللقاحات العالمية، بعدما مُنح معهد سيريوم الهندي حق الملكية الفكرية لإنتاج لقاح "أوكسفورد/ أسترازينيكا" الذي سيمدّ 64% من الدول ذات الدخل المنخفض، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية.
وهنالك دول غربية تصنع بعض اللقاحات المضادة لفيروس كورونا في الهند بسبب رخص كلفة الإنتاج. وتتجه شركة "جونسون أند جونسون" لإنتاج لقاحاتها في الهند. وتعدّ بريطانيا من كبار الدول الغربية التي تنتج لقاحات في الهند، إذ تنتج نحو 5 ملايين جرعة من لقاحات "أوكسفورد/ أسترازينيكا" في مصانع هندية.
لكن، هناك العديد من المتاعب التي ربما تواجه الاقتصاد العالمي في المستقبل في حال استمرار جائحة كورونا لفترة أطول في الهند، ربما لن تكون ملحوظة في الوقت الراهن، لكنّ أهمها عرقلة سلاسل الإمداد خصوصاً في قطاع الخدمات، كما أنّ الجائحة ربما ترفع من مخاوف انتشار الفيروس وتدفع الاقتصادات الغربية الكبرى لإغلاقات جديدة.
وهناك مخاوف حقيقية على صناعة السفر والطيران التي تعرضت لهزات شديدة خلال العام الماضي 2020، وهنالك آمال بتعافيها في الصيف المقبل.
لكن، في حال السعي إلى محاصرة الفيروس لمنعه من الانتشار عبر عزل الهند، فإنّ ذلك سيشكل ضربة جديدة على قطاع السياحة والسفر العالمي. ويلاحظ أنّ الاقتصادات العالمية لم تسجل حتى الآن خسائر تذكر من تفشي الموجة الثانية من فيروس كورونا في الدولة شبه القارة، سوى بعض الاضطراب الذي عانت منه أسواق العملات في بداية الأسبوع الماضي.
على صعيد تداعيات أزمة الهند على أسواق السلع الأساسية، تهدد الجائحة انتعاش سوق النفط والغاز الطبيعي التي بدأت تظهر آثارها الإيجابية في ارتفاع أسهم شركات الطاقة وارتفاع ربحيتها في نتائج الربع الأول من العام الجاري، كما ساهم ارتفاع أسعار النفط في تخفيض العجز في ميزانيات بعض الدول الخليجية.
وتعدّ الهند ثالث أكبر مستهلك للنفط ومشتقاته في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. وتستهلك الهند أكثر من 5 ملايين برميل يومياً من النفط.
وبحسب إحصاءات شركة "بريتش بتروليوم ـ بي بي" وصل متوسط الاستهلاك اليومي للوقود في الهند إلى 5.3 ملايين برميل.
وتأتي معظم كميات النفط الخام للمصافي الرئيسة في الهند من الدول العربية ونيجيريا، وبالتالي فإنّه، حتى الآن، يقود الاقتصادان الأميركي والصيني دورة الانتعاش العالمية، إذ نما الاقتصاد الصيني بمعدل 18.3% في الربع الأول من العام الجاري، لكنّه واجه صعوبات صناعية في إبريل/ نيسان المنصرم، بسبب النقص في أشباه الموصلات. وبحسب تقرير في "وول ستريت جورنال" فإنّ مصانع السيارات والمعدات الكهربائية وأدوات التقنية الرقمية في الصين تعاني بشدة من نقص الشرائح.
على الصعيد الأميركي، تمكن الاقتصاد من النمو بمعدل شبه قياسي في الربع الأول من العام الجاري، وهو النمو الذي بلغ 6.4% في الربع الأول من العام، ما يعني أنّ هذا النموّ يقلّ بنسبة 0.1% فقط عن المعدل السنوي الذي قدره مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) بنحو 6.5%.
كما شهد الاقتصاد الأميركي خلال الشهور الأخيرة العديد من المؤشرات الإيجابية، من بينها ارتفاع دخل العائلات الأميركية بمعدل بلغ 21.1% في مارس/ آذار الماضي، مستفيداً من التحفيز المالي والشيكات النقدية التي دخلت جيوب الأسر، كما ارتفع معدل الادخار للأفراد بنسبة 27.6%.
ويعد الإنفاق الاستهلاكي من العوامل الرئيسية في النمو الاقتصادي الأميركي. وتقدر القوة الشرائية في الولايات المتحدة بأكثر من 16 تريليون دولار سنوياً.
كما ارتفع عدد الوظائف المتاحة. وارتفعت أجور بعض المهن فوق مستوى 15 دولاراً في الساعة، خصوصاً أجور الطباخين الذين بات بعضهم يطالب بـ24 دولاراً في الساعة.
لكنّ العديد من الشركات الأميركية التي لديها ارتباطات تجارية مع السوق الهندية، خصوصاً في مجال قطع الغيار والرقائق والخدمات ربما ستتأثر خلال الشهور المقبلة. وهذا ستكون له آثار سلبية على النمو الاقتصادي الأميركي وإن كان ضئيلاً وفق محللين.