كأنها مفاوضات "شرعنة سد النهضة" 

29 مارس 2021
السيسي اكتفى برفض التصريحات الإثيوبية والإعراب عن القلق تجاه ملء السد
+ الخط -

يتحدث رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، عن المرحلة الثانية من ملء بحيرة سد النهضة منذ نهاية العام الماضي. وكشف لأول مرة عن أنها ستكون بحجم 13.5 مليار متر مكعب من المياه، وأنها ستكون في يوليو/تموز 2021. وكشف لأول مرة عن أن بناء سد النهضة سيكتمل بحلول عام 2023.  

وهذا الشهر، وقبل أربعة أشهر من موسم الأمطار الجديد أكد أيضا وزير الري الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، وغيره من المسؤولين على أن التعبئة الثانية ستتم في يوليو، وأنه لا توجد أي قوة تمنع بلاده من استكمال السد. كل ذلك لتهيئة المجتمع الدولي ليستقبل حدث الملء الثاني للسد دون مفاجأة أو اعتراض.  

اللافت أن إثيوبيا اتبعت نفس السيناريو للتمهيد لعملية الملء الأول لخزان السد التي أنهتها منفردة في يوليو/تموز العام الماضي 2020. فبدأ آبي أحمد الحديث عن الملء الأول قبل ثلاثة أشهر من موعده، وذلك في نهاية مارس/آزار 2020 فقال: "سنبدأ ملء سد النهضة في موسم الأمطار المقبل".  

ولتحقيق نفس الهدف، وهو التمهيد للملء الأول، قالت رئيسة الدولة، سهلي ورك زودي قبل عملية الملء بثلاثة أشهر أيضا في اجتماع المجلس الوطني لبناء سد النهضة في 5 مارس/آذار 2020 إن بلادها ستبدأ ملء السد في شهر يوليو القادم، وستنتهي من بنائه بالكامل في عام 2023. ولنفس الهدف أيضا بعث وزير الخارجية السابق، غيدو أندارغاشيو، برسالة إلى مجلس الأمن، يخبره بالحدث قبل الملء بشهرين كاملين وبالتحديد في 18 مايو/أيار الماضي. 

والملاحظ أن الجنرال عبد الفتاح السيسي اتخذ ردة فعل متطابقة في مواجهة السيناريو الإثيوبي الممهد لعملتي الملء الأول والثاني. وهو رفض التصريحات الإثيوبية والإعراب عن القلق. فبعد التصريحات الإثيوبية عن الملء الأول، عبر السيسي عن قلقه والشعور بالخوف الذي انتاب المصريين، على حد تعبيره، تجاه إعلان إثيوبيا اعتزامها البدء في ملء خزان السد الضخم من دون التوصل لاتفاق حول قواعد منظمة لعملتي ملء وتشغيل سد النهضة. 

وبدلا من اتخاذ موقف جاد، من قبيل الاحتجاج لدى الاتحاد الأفريقي الذي يرعى المفاوضات، وخرق إثيوبيا اتفاق إعلان المبادئ، وتهديد السلم والأمن الأفريقيين وإمكانية الانسحاب من إعلان المبادئ الموقع في مارس/آيار 2015، قال السيسي في كلمته أمام قمة رؤساء الدول الأعضاء بهيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي لمناقشة قضية سد النهضة، إن رؤية مصر تتمثل في أهمية العودة للتفاوض من أجل التوصل في أقرب فرصة ممكنة إلى اتفاق حول سد النهضة وعدم الإقدام على أي خطوة أحادية، وذلك في 26 يونيو/حزيران 2020 وقبل ثلاثة أسابيع فقط من تنفيذ إثيوبيا عملية الملء الأول. 

وبينما كانت الدول الثلاث منخرطة في مفاوضات استمرت لمدة 11 يوما متصلة منذ 3 يوليو/حزيران، كانت إثيوبيا ضالعة في ملء خزان السد بالمياه سرا. وعندما أعلنت في 21 من الشهر نفسه أنها انتهت من الملء الأول، كان رد السيسي فاترا ولا يتناسب مع خطورة الحدث ولا يكشف عن تفاجئه. واكتفى بالقول إن مصر تتحرك في معركة تفاوض حول ملء وتشغيل سد النهضة، وأن التفاوض معركة ستطول .. وأن المفاوضات سوف تنجح إن شاء الله!! 

الغريب أن تصريحات السيسي المخيبة لتطلعات ومخاوف المصريين جاءت بعد أيام من تأكيد رئيس الوزراء الإثيوبي، على أن المفاوضات "متواصلة ولم تنقطع بشأن سد النهضة مع كل من مصر والسودان، وأن إثيوبيا لم تتعهد بوقف عملية ملء السد". وهنا سؤال مهم حول جدوى تمسك مصر بمفاوضات مع إثيوبيا وهي التي لا تلقي للمفاوضات بالا! 

والأغرب من رد فعل السيسي السابق، أنه عندما هدد آبي أحمد بشن الحرب ضد مصر، استنكر السيسي حديث المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام عن خيار العمل العسكري لوقف بناء السد والحفاظ على حق المصريين في المياه والحياة، بل شدد على ألا يهدد أحد أو يتحدث مجرد حديث عن عمل عسكري ضد إثيوبيا، لخطورة ذلك على تأليب الرأي العام! 

وفي هذه المرة، وبعد تمهيد إثيوبيا للملء الثاني والكشف بدقة عن موعده، اتخذ السيسي ردة الفعل الفاترة نفسها التي اتخذها للرد على الملء الأول. فلم يتجاوز التصريحات الكلامية وبنفس الألفاظ، رغم مرور سنة كاملة على التصريحات التي أعقبت التمهيد للملء الأول، ورغم تكرار المفاوضات وتكرار فشلها. 

ولم يتجاوز رده رفض إعلان إثيوبيا عن نيتها تنفيذ المرحلة الثانية من ملء سد النهضة من دون التوصل إلى اتفاق، والتأكيد على أن رؤية مصر تتمثل في حتمية العودة للتفاوض من أجل التوصل في أقرب فرصة إلى اتفاق حول سد النهضة والعمل على نجاح المفاوضات وحث إثيوبيا على عدم الإقدام على أي خطوة أحادية.  

ويمكن الرجوع إلى نص التصريح الأول والذي كان في 26 يونيو/حزيران 2020، والتصريح الثاني وكان في السودان يوم 6 مارس/آزار الحالي لنكتشف تطابق الكلمات. 

الخطير في تمهيد إثيوبيا للملء الثاني للسد أن نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، ديميكي ميكونين، وهو يشغل أيضا رئيس المجلس الوطني لبناء سد النهضة الإثيوبي، قال إنه لا يمكن لأحد أن يحرم إثيوبيا من نصيبها البالغ 86% في مياه نهر النيل. وفي هذا تأكيد على أن إثيوبيا تستهدف السيطرة والتحكم في النهر، وهو الهدف الذي عبر عنه سلفه غيدو أندارغاشيو عقب الملء الأول في يوليو/تموز الماضي بقوله إن نهر النيل أصبح بحيرة إثيوبية محلية، وأن "النيل ملك لنا"، وأن "ما قمنا به من بناء سد النهضة هو بمثابة تغيير الرؤية والأهداف وأحدثنا تغييرا في التاريخ والجغرافية السياسية للمنطقة". 

أي إن إثيوبيا تريد مفاوضات بلا سقف زمني ومن دون التقيد باتفاقيات قانونية ملزمة. وقد صرحت وزارة الخارجية الإثيوبية في يوم 24 فبراير/شباط الماضي بأن إثيوبيا ستقوم بالتعبئة الثانية للسد ولا علاقة للمفاوضات بذلك. وتدعي أنها تستند في ملء السد إلى اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث، في 23 مارس/آزار 2015.  

وأكد ذلك عضو الوفد الإثيوبي المفاوض والمستشار القانوني في وزارة الخارجية، إبراهيم إدريس، بقوله إن من حق إثيوبيا بناء السد وفقا للوثيقة الموقعة بين مصر وإثيوبيا والسودان، وأن بلاده ستقوم بالتعبئة الثانية، وأن هذه الخطوة لا علاقة لها بمفاوضات سد النهضة، وأن بلاده ستمضي في بناء السد رغم المحاولات المصرية والسودانية غير المقبولة. 

هذه ليست مفاوضات بمعنى المفاوضات الجادة لحل أزمة سد النهضة بتقليل حجمه أو وقف بنائه بسبب آثاره الكارثية، بل هي شبه مفاوضات لشرعنة بناء السد واكتماله. بدليل أن المفاوضات مستمرة منذ 10 سنوات رغم الاتفاق على فشلها بعد كل جولة، أما البناء في السد فلم يتوقف ليوم واحد. كما أن إثيوبيا تستند في بناء السد إلى اتفاق إعلان المبادئ وهو أهم مكاسبها من المفاوضات.  

إننا أمام تمثيلية مفاوضات مفضوحة، وسيناريو إثيوبي متكرر ورد فعل مصري مكرر. وفيه تبدأ إثيوبيا بالإعلان عن موعد الملء، وترد مصر برفض الإعلان الإثيوبي، ثم تنفذ إثيوبيا الملء في موعده، ثم تعلن مصر التمسك بالعودة للمفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق حول سد النهضة في أقرب فرصة ممكنة وعدم الإقدام على أي خطوة أحادية!! 

لقد استقر في علم إدارة الأزمات أن الإيمان بعدالة القضية والإخلاص لها هو ألزم صفات القائد الذي يدير الأزمة، وأن تحديد الأهداف هو أهم عوامل النجاح في حلها، وأن كسب الوقت هو عامل الحسم في منع تفاقم الأزمة. ومن المعلوم بالضرورة أن أزمة سد النهضة ستكون مرحلة تحول في حياة الأمة المصرية، وخطا زمنيا فاصلا بين الاستقرار والاضطراب، وبين الحياة المستقرة والموت عطشا أو أو غرقا، وبين السلم الأهلي والاقتتال على شربة الماء، وبين استقرار إقليم حوض النيل والحرب الشاملة بين دوله. 

وقد اتهم الفريق سامي عنان، وهو رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الأسبق، الحكومة بالفشل الذريع في إدارة ملف سد النهضة منذ التوقيع على إعلان الخرطوم في مارس/آذار 2015. وطالب عنان بمحاسبة كل من شارك في هذا الوضع الكارثي وطالب بفتح كل الخيارات للدفاع عن الأمن القومي لمصر وحقوقها التاريخية في مياه النيل. 

وبعد الملء الأول للسد، دشن خبراء في القانون الدولي للمياه من مصر والسودان "الحملة الدولية لحماية مصر والسودان من العطش" وأقاموا مؤتمرا في يوم 25 يوليو/ تموز بعنوان "صرخة شعبي مصر والسودان، لا للعطش.. لا للغرق.. لا للدمار" بثته وسائل إعلام دولية في حينه. وأوصى المؤتمر في بيانه بإيقاف المفاوضات فورا حتى لا يشكل الملء الأول "سابقة قانونية " لأن استمرار المفاوضات بعده يعني ضمنيا "تقنين وشرعنة" الملء الانفرادي غير المشروع. 

وطالب البيان حكومة مصر والسودان بسحب التوقيع على اعلان المبادئ فورا، حيث إن الملء بإجراء منفرد هو انتهاك إثيوبي لإعلان المبادئ. وكذلك رفع القضية لمجلس الأمن بموجب الفصل السابع للمطالبة باستصدار قرار يلزم إثيوبيا بوقف بناء السد حتى إبرام اتفاق ملزم يحدد حقوق والتزامات كل دولة من الدول الثلاث. ذلك أن مجلس الأمن سبق أن طالب إثيوبيا بعدم الملء بإجراء منفرد. كما أن قطع المياه عن مصر والسودان من دون اتفاق هو إعلان حرب بمفهوم الأمن القومي.  

إن الجنرال السيسي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بتنفيذ خطوات فعلية لوقف الملء الثاني للسد، وذلك لإثبات جديته وإخلاصه في مواجهة الأزمة التي تهدد حياة الشعب المصري، ولتبرئة ساحته من الخطيئة والتقصير في إدارة الأزمة التي أشار إليها رئيس أركان الجيش المصري السابق وهي تهمة ربما ترقى إلى الخيانة العظمى.