تواجه قناة السويس في مصر مشروعات بديلة إقليمية ودولية، تهدد مستقبلها كأهم ممر ملاحي عالمي. إذ ظهرت على السطح عدة مشروعات كبرى تقف وراءها دول مثل روسيا والصين وإيران وإسرائيل وبدعم من أطراف عربية لبعضها.
تأتي التحديات الخطيرة للمر الملاحي الحيوي لمصر من دول عربية هرولت للمصالحة مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث توظف قدراتها المالية لدعم مشروعات للنقل البري والبحري، لتتحد مع مشروعات موازية عبر الخليج العربي وإيران، تتحاشى المرور بالممر الملاحي.
بينما يحلو لبعض المسؤولين المصريين التباهي بعدم قدرة أي مشروعات بديلة على ملاحقة قدرة القناة المصرية على زيادة حمولة السفن وعددها وخفض تكاليف العبور مع أمان الشاحنات والأفراد، يؤكد خبراء ملاحة واقتصاد أن هذه المشروعات والتي جرى البدء فعلياً في تنفيذ بعضها تمثل تهديداً حقيقياً للقناة، لا سيما أن الحكومات المتعاقبة في مصر انحرفت عن مسار تطوير الممر الملاحي كمشروع تنمية اقتصادية يحقق نهضة شاملة في البلاد.
يوجد 12 مشروعاً مقترحاً لمنافسة قناة السويس، 4 منها هي الأشد تأثيراً. ويعتبر ممر الملاحة عبر القطب المتجمد الشمالي، الذي يربط بين المحيطين الهادي والأطلسي، وجرى تجربته قبل أيام، من أخطر الممرات التي تهدد القناة المصرية، حيث بدأت روسيا بالتعاون مع الصين في تطوير الممر منذ سنوات. وتسعى روسيا لجعله ممراً لتصدير الغاز والنفط المنتج من حقول شمالي سيبيريا، بينما تخطط الصين إلى استغلال التحولات المناخية، في جعله ممراً تجارياً دائماً على مدار العام، لنقل البضائع بين شرق آسيا وأوروبا.
تمثل قناة السويس أهم دخل للعملة الصعبة، بعد عائدات المصريين بالخارج، بما يبلغ نحو 9.4 مليارات دولار عام 2022، حيث تمر بالقناة نحو 72 سفينة يومياً
وبدأت شركة الطاقة روسنفت، المملوكة للحكومة الروسية، التفاوض مع شركات شحن ومقاولين أجانب، لتنفيذ مشروع "فوستوك أويل" لتصدير النفط الروسي من بحر الشمال بحول العام المقبل 2024. وتقدر روسنفت إمدادات حقول بحر الشمال بنحو 6.2 مليارات طن من الخام.
وتخطط الحكومة الروسية ليصبح الممر مفتوحاً أمام الحركة التجارية في عام 2035، إذ وفرت له استثمارات بقيمة 30 مليار دولار. وتستغرق الرحلة عبره بين شرق الصين وغرب أوروبا نحو 23 يوماً، بما يقل 11 يوماً عن فترة مرورها في قناة السويس، بما يعني خفض التكاليف والوقت.
وتوجه الحكومة الصينية شركات الملاحة لاستخدام "الممر الشمالي" في قوافل تقودها كسارات الجليد النووية الروسية، منذ عام 2016، مستغلة اتساع الممر مع زيادة الاحتباس الحراري، الذي يذيب الجليد بالقطب الشمالي، بما يساهم في تقليل الوقت والتكاليف.
وتمثل حصة الصين من الحاويات والبضائع المنقولة عالمياً نحو 11% من أعداد السفن العابرة لقناة السويس سنوياً. في الوقت نفسه، تحفر الصين قناة تربط بين المحطين الهادي والأطلسي، عبر أراضي نيكاراغوا، تنافس قناة بنما، تبلغ استثماراتها 50 مليار دولار، في إطار سعيها للهيمنة على طرق التجارة الرئيسية حول العالم.
وتخطط روسيا كذلك لمشروع ممر شمال ـ جنوب، الذي يربط بين ميناء بومباي في الهند وموانئ الخليج العربي، وبراً إلى إيران، ليتجه إلى بحر قزوين بخطوط سكك حديدية، ثم يتواصل براً إلى ميناء سان بطرسبرغ غرب البلاد، ومنه إلى غرب أوروبا والمحيط الأطلسي.
ويقدر طول الممر بنحو 7200 كيلومتر. وتؤكد وزارة الاقتصاد الروسية، أن حجم البضائع المنقولة عبره خلال الربع الأول من العام الجاري 2023، بلغت 2.3 مليون طن، متوقعة أن تزداد إلى نحو 17 مليون طن بحلول عام 2030، مع بناء سكة حديد تربط بين موسكو وموانئ إيران البحرية.
وتبلغ مدة الرحلة على الخط ما بين 30 إلى 45 يوماً، وينتظر ألا تزيد عن 10 أيام فقط عند توفير التكاليف اللازمة لاستكمال الخط الحديدي، ليصبح الطريق برياً بين الخليج العربي وغرب روسيا.
وفي 17 مايو/ أيار الماضي، وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي اتفاقاً لتمويل وبناء خط سكك حديدية إيراني بقيمة 1.6 مليار دولار كجزء من مشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب.
يأتي المضي قدماً في هذه المشروعات بينما أطلقت الصين مشروع طريق الحرير البري الجديد، عام 2014، ليربط بين شرق الصين ودول وسط آسيا، عبر كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا، ليتفرع إلى برلين ثم إيطاليا جنوباً، وآخر إلى فرنسا ليصل إلى لندن.
كذلك، أطلق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مشروعاً ينافس قناة السويس عبر خط سكك حديدية يربط تل أبيب بالأردن ويمتد للأراضي السعودية والإمارات، تبلغ تكلفته 27 مليار دولار. جاءت المساعي الإسرائيلية عقب التطبيع مع الإمارات، وأثناء جنوح سفينة عملاقة عطلت الملاحة في قناة السويس بضعة أيام عام 2022.
ويوم 7 يوليو الماضي، ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، أن إسرائيل عرضت على الولايات المتحدة خطة لإنشاء طريق بري يربط دول الخليج العربية بموانئها عبر الأراضي السعودية والأردنية. وأوضحت أن "الطريق مخصص لتصدير البضائع من الشرق إلى أوروبا عبر إسرائيل، ولاحقا للتنقل السياحي أيضا".
وسبق أن وضعت حكومة الاحتلال خطة لإنشاء قناة تربط بين البحرين الأحمر والميت، ليتم ربطه بسكك حديدية إلى البحر المتوسط، ثم عدلت عن تنفيذه لارتفاع التكلفة، وحولته إلى مجرد مشروع لرفع المياه من خليج العقبة إلى البحر الميت المعرض حالياً للجفاف.
كذلك يدرس العراق إقامة مشروع يربط بين ميناء الفاو بالخليج العربي، لنقل النفط إلى تركيا عبر شبكة أنابيب للنفط والغاز، وسكك حديدية سريعة على امتداد 1200 كيلومتر، تختصر الوقت بين آسيا وأوروبا. وتقدر تكلفة المشروع بنحو 17 مليار دولار.
الممر الشمالي الأخطر على قناة السويس
ويقول وائل قدور خبير النقل البحري إن بعض المشروعات التي تظهر تمثل تحدياً حقيقياً لقناة السويس، مشيراً في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الممر الشمالي" الذي تنفذه روسيا بدعم من الصين، يعد أخطر المشروعات التي تهدد القناة، خلال السنوات المقبلة.
ويوضح قدور الذي شغل سابقاً عضو مجلس إدارة هيئة قناة السويس، أن المشروع سيبدأ في منافسة قناة السويس بعد تشغيله تجارياً عام 2035، لأنه يوفر 40% من طول المسافة بين شرق آسيا وشمال وغرب أوروبا، بما ينعكس على وقت الرحلة وتكاليف النقل.
أما المشروعات التي تسعى إسرائيل وإيران والصين لتنفيذها عبر مسارات برية مختلفة، يعتبرها قدور غير مؤثرة، لافتا إلى أن حجم البضائع التي تمر عبر قناة السويس تبلغ 1400 مليون طن سنوياً، بما يمثل 12% من حركة التجارة الدولية، 30% منها تجارة حاويات و5% للنفط الخام و10% منتجات بترولية، و8% للغاز المسال.
وتمثل قناة السويس أهم دخل للعملة الصعبة، بعد عائدات المصريين بالخارج، بما يبلغ نحو 9.4 مليارات دولار عام 2022، حيث تمر بالقناة نحو 72 سفينة يومياً. وتأمل إدارة القناة زيادة حركة الملاحة بنسبة 28%، مع الانتهاء من مشروع تطوير المجري الملاحي للقناة خلال 3 أعوام.
لذا يشدد قدور على ضرورة تحويل قناة السويس من مجرد ممر مائي إلى محور اقتصادي عالمي، مشيرا إلى أن هذه السياسات اعتمدت في ثمانينيات القرن الماضي، عندما أتت الدولة بخبراء من اليابان عام 1984 لوضع تصور كامل لمشروع التطوير، حددت معالمه بالكامل عام 1990، لتصبح مدن القناة بديلاً كاملاً لجزيرة هونغ كونغ، التي كانت في سبيلها للعودة إلى الصين عام 1997.
ويقول إن الحكومات المتعاقبة فوتت الفرصة على الدولة، في تحويل الممر إلى مناطق اقتصادية متكاملة، وذلك قبل ميلاد مشروع "جبل علي" في دبي بسنوات، ونمو موانئ سنغافورة، ووجود أي دراسات حول مشروعات منافسة.
ويلقي خبير النقل البحري باللائمة على المسؤولين الذين يأتون بالقيادات غير المناسبة، ومنح مقاعد السلطة والمسؤولية لمن لا يستحق، لتدير مشروعاً يمكنه أن يعيد تشكيل الاقتصاد المصري، ويجعله أكثر تنافسية وقوة، مؤكداً أن هناك حاجة ماسة إلى تصحيح مناخ الاستثمار وشفافية وترشيد القرارات الاقتصادية، وتحقيق العدالة الناجزة التي تسرع في حل المنازعات التجارية.
إسراف في الإنفاق على المنتجعات
ويضيف قدور أن الدولة أسرفت في طلب القروض من الخارج، دون أن توظفها في مسارها الصحيح، منوها إلى أن هذه الأموال لو وجهت إلى تنمية محور قناة السويس، دون الإسراف في الإنفاق على إقامة منتجعات سكنية وشاطئية بالعاصمة الجديدة (شرق القاهرة) أو العلمين على ساحل البحر المتوسط (شمال)، لكان ذلك خيراً لاقتصاد الدولة، وساعد على توظيف المال العام بطريقة رشيدة، تجلب عوائد كبيرة للدولة والمجتمع.
في السياق، يقول معتز خفاجي خبير التخطيط، إن الحكومة المصرية لم تلتزم بتنفيذ خطة تحويل المنطقة المحيطة بالقناة والممر المائي إلى مشروع للتنمية الاقتصادية، حيث جرى توجيه استثمارات ضخمة لتوسعة التفريعة الجديدة، ما حمل القناة خسائر خلال الفترة من 2015 إلى 2019، بما يعادل 185 مليار جنيه.
ويؤكد خفاجي أن مشروع تنمية محور قناة السويس، استهدف توفير فرص تشغيل مستدام وتسكين 2.4 مليون نسمة، خلال 5 سنوات، عند بدء تنفيذه على امتداد القناة، عام 2015، وهو ما لم تلتزم به الحكومة حتى الآن. واستثمرت الحكومة 8 مليارات دولار في توسعة التفريعة الجديدة بقناة السويس عام 2016، أملا في زيادة حركة السفن في اتجاهي الجنوب والشمال.
في مقابل المخاوف التي يبديها خبراء من العديد من المشروعات المنافسة لقناة السويس، يرى جمال بيومي مساعد وزير الخارجية الأسبق، ورئيس اتحاد المستثمرين العرب، أن قناة السويس ستظل وسيلة العبور الأسرع والأرخص في نقل البضائع بين الشرق والغرب.
ويقول بيومي، في مقابلة مع "العربي الجديد"، إنه درس المشروع الإسرائيلي، للربط البحري بين ميناءي عسقلان وإيلات، عندما عمل مديراً لإدارة إسرائيل في وزارة الخارجية المصرية، منذ عقدين، واتضح صعوبة تنفيذه لحاجته إلى شق مساره بالتفجير النووي، ومع تكلفته الباهظة، لن يستطيع نقل حمولات أكثر من 40 ألف طن، بينما قناة السويس تمرر حمولات بوزن 400 ألف طن حالياً.
إدارة قناة السويس تأمل زيادة حركة الملاحة بنسبة 28%، مع الانتهاء من مشروع تطوير المجري الملاحي للقناة خلال 3 أعوام
ويشدد على حق مصر في الاعتراض على أي مشروعات تقيمها إسرائيل تهدد حقوقها التاريخية والأمنية، وفقا لاتفاقيات السلام الموقعة مع الطرف الإسرائيلي.
لكن رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، لم يخف مخاوفه من مشروع خط أنابيب يربط بين الإمارات بحراً بميناء إيلات على خليج العقبة، ومنه إلى ميناء حيفا، بعد حصول "موانئ دبي" على 33% من أسهم الميناء المطل على البحر المتوسط، مؤكدا في تصريحات صحافية مؤخراً أنه في حالة تنفيذه، سيقلل حركة المرور عبر قناة السويس بنسبة تصل إلى 16%.