وافقت الحكومة العراقيّة مؤخّرًا على تجديد عقد توريد الفيول المعقود مع لبنان، لمدّة سنة كاملة، وبنفس شروط العقد الذي تم تطبيقه منذ عام وحتّى اليوم. وبذلك، سيكون بإمكان لبنان تأمين كميّة محدودة من المحروقات لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، أي مؤسسة الكهرباء الوطنيّة، بعد استبدال الفيول الأسود العراقي الذي سيحصل عليه بمحروقات قابلة للاستخدام في معامل الكهرباء اللبنانيّة.
من حيث الشكل، ستبلغ كميّة الفيول التي سيحصل عليها لبنان من هذا العقد نحو مليون طن خلال سنة، ما سيكفي لتأمين تغذية مؤسسة الكهرباء لنحو ساعتين يوميًّا على مدى العام المقبل. وبذلك، ورغم تواضع كميّة الفيول هذه مقارنة بحاجة مؤسسة الكهرباء الإجماليّة، يمكن القول إن هذا الفيول سيكون آخر ما سيبقي مؤسسة كهرباء لبنان على قيد الحياة، لكونه آخر مصدر متوفّر للحصول على المحروقات المطلوبة لتشغيل المعامل.
بمعنى آخر، أنقذ العقد مع العراق شبكة الكهرباء اللبنانيّة من سيناريوهات الخروج التام من الخدمة، رغم محدوديّة التغذيّة التي ستحافظ عليها الشبكة، وبالرغم من ساعات التقنين الطويلة التي ستتجاوز حدود الـ22 ساعة يوميًّا. وتشغيل المعامل على هذا النحو، ولو للحصول على تغذية محدودة من الكهرباء، ستكون ضروريّة لضمان استمراريّة المرفق العام، الذي يمثّل أحد القطاعات الحسّاسة التي يفترض أن تشرف على إدارتها الدولة على المستوى الوطني.
من الناحية العمليّة، نتجت أزمة الكهرباء الحاليّة عن تقاطع عدّة عوامل. فتقادم المعامل وتهالكها، قلّص قدرة الشبكة الإنتاجيّة القصوى إلى حدود 10 ساعات يوميًّا فقط. واستنفاد احتياطات المصرف المركزي، وحالة التعثّر التي تصيب الميزانيّة العامّة، وعدم تصحيح تعرفة الكهرباء بعد كل التدهور الذي أصاب قيمة الليرة، بات يحول دون تأمين المحروقات اللازمة لتأمين التغذية من المعامل، حتّى ضمن حدود قدرة الشبكة الإنتاجيّة. ولذلك، باتت مؤسسة الكهرباء غير قادرة على تشغيل معاملها على الإطلاق.
هكذا، جاء عقد الفيول العراقي كمخرج يمكن أن يؤمّن كميّة محدودة من الفيول، دون الاضطرار لسداد ثمنها بالدولار فورًا. فالعقد ينص على سداد ثمن الوقود بأرصدة مودعة في المصرف المركزي اللبناني، يمكن استعمالها لشراء خدمات أو سلع محليّة داخل لبنان. وحتّى اللحظة، تراكم لمصلحة الجانب العراقي مبلغ تفوق قيمته النصف مليار دولار في حسابات مودعة لدى المصرف المركزي اللبناني، نتيجة بيع لبنان الفيول طوال العام الماضي، قبل أن يتم تجديد العقد الآن، وهو ما يطرح اليوم السؤال عن كيفيّة استعمال هذه المبالغ الضخمة، ونوعيّة السلع والخدمات التي يمكن للعراقيين شراؤها من لبنان.
في كل الحالات، وكما هو واضح، يمثّل عقد الفيول العراقي مساعدة طارئة للبنان تغيث القطاع وتمنع انهيار مؤسسة الكهرباء، عبر الحؤول دون إطفاء معاملها. لكنّ هذا العقد لا يشكّل حكمًا أي معالجة جديّة لأزمات القطاع، ولا يقدّم أي حلول مستدامة في المستقبل. مع الإشارة إلى أنّ تراكم كلفة شراء الفيول كالتزامات في المصرف المركزي، بدل استعادة الانتظام والتوازن المالي في مؤسسة كهرباء لبنان وشراء الفيول من عوائد التشغيل، يشير بوضوح إلى أننا لسنا أمام حلّ جذري للأزمة. كما تشير محدوديّة ساعات التغذية (ساعتان في اليوم) إلى ضآلة أثر هذه المعالجة.
فالمطلوب لإنقاذ قطاع الكهرباء اللبنانيّة هو تصحيح التعرفة أولًا، لتتوازى مع كلفة الإنتاج والتشغيل، بحسب أسعار النفط العالميّة الجديدة، وبحسب قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار، بعد كل الانهيار الذي أصاب الليرة. ورغم أن هذا التصحيح سيضاعف فواتير الكهرباء الحكوميّة على المواطن، ستبقى فاتورة مؤسسة كهرباء لبنان أقل وطأة من فواتير المولّدات الخاصّة التي يدفع ثمنها اللبنانيون اليوم، والتي ترتفع كلفتها بشكل كبير مقارنة بكلفة إنتاج المعامل الكبيرة. وعند تصحيح التعرفة، ستكون مؤسسة كهرباء لبنان قد استعادت توازنها المالي، وقدرتها على تأمين المحروقات اللازمة لتشغيل المعامل بطاقتها القصوى، القادرة على تغطية 10 ساعات من التغذية في اليوم الواحد.
الخطوة الثانية المطلوبة هي الشروع ببناء المعامل الجديدة، للوصول إلى معدل تغذية يغطي كل ساعات الليل والنهار. ورغم تعثّر الدولة ماليًّا في الوقت الراهن، بإمكان الدولة الدخول في صفقات شراكة مع القطاع الخاص، بما يسمح لشركات عالميّة ببناء المعامل واستثمارها وبيع إنتاجها لمؤسسة كهرباء لبنان، ومن ثم إعادة المعامل لمؤسسة كهرباء لبنان بعد انقضاء مدّة من الزمن. وفي حال تصحيح التعرفة كخطوة أولى، ستكون مؤسسة كهرباء لبنان قد أمّنت التوازن المالي، ما يعطي الثقة للقطاع الخاص بالدخول في هذا النوع من الشراكات مع القطاع العام.
بالإضافة إلى كل ما سبق، على عمليّة التصحيح الشاملة في القطاع أن تقوم بإجراءات أخرى ضروريّة، كالحد من الهدر التقني وغير التقني، عبر مكافحة عمليّات التعدي على شبكة الكهرباء العامّة، وزيادة معدّلات تحصيل الفواتير. ومن المعلوم أن ارتفاع نسبة الهدر وسرقة الكهرباء من الشبكة العامّة، بالإضافة إلى ارتفاع نسب التخلّف عن دفع الفواتير، مثّلا أسبابا إضافيّة لتعثّر المؤسسة ماليًّا خلال الفترة الماضية.
في الوقت الراهن، ما يعيق تنفيذ كل الخطوات المذكورة ليس سوى الحسابات السياسيّة. فالتخطيط لبناء المعامل الجديدة، لطالما تعثّر بفعل خلافات السياسيين على مواقع هذه المعامل، وكيفيّة تنظيم مناقصاتها ودفاتر شروطها. وجميع هذه الخلافات، تتصل بمصالح السياسيين وشركائهم من المتعهدين، والصفقات التي يرغب أن يستفيد منها هؤلاء في عمليّة بناء وتشغيل المعامل الجديدة. ومن المعلوم أن قطاع الكهرباء عانى تاريخيًّا في لبنان من ظواهر الهدر والفساد، وانعدام الشفافيّة في تنظيم المناقصات وتلزيم أعمال البناء والخدمات والتشغيل والصيانة. وفي الغالبيّة الساحقة من الحالات، كان يتم توزيع هذه العقود بأساليب مشبوهة على المتعهّدين الذين يدور كلّ منهم في فلك إحدى القوى السياسيّة النافذة في البلاد.
في الوقت نفسه، يحول دون تصحيح التعرفة ومعالجات التعدّيات على الشبكة الحسابات السياسيّة أيضًا، لكون القوى الممثلة في حكومة تصريف الأعمال لا ترغب باتخاذ خطوات غير شعبيّة، بما يمكن أن يضعها في حالة صدام مع جمهورها. وهذه الإشكاليّة كان من الممكن أن تتم معالجتها لو تم تشكيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء كما ينص القانون، حيث كان من المفترض أن تدير هذه الهيئة القطاع كجهاز تقني متخصص، بشكل مستقل عن الحكومة والوزراء وحسابات السياسيين الخاصّة.
لكن حتّى في ما يخص الهيئة الناظمة للقطاع، لم تتشكل الهيئة الناظمة فعليًّا منذ إقرار القانون القاضي بتشكيلها عام 2002. والسبب مجددًا، تمثّل في حسابات السياسيين الذين لم يرغبوا بتحرير القطاع من سطوة وزرائهم في الحكومة، ولم يناسبهم تشكيل هيئة متخصصة قادرة على إدارة القطاع بمعزل عن مصالحهم.
لكل هذه الأسباب، ونظرًا لفقدان الدولة مصداقيّتها في إدارة هذا القطاع بالتحديد، لم يوافق البنك الدولي حتّى اللحظة على منح لبنان القرض الذي كان من المفترض أن يموّل استجرار الغاز من مصر، لاستعماله في تشغيل المعامل. فالبنك الدولي لم ير أن لبنان يملك حتّى اللحظة خطّة قادرة على إنقاذ قطاع الكهرباء بشكل مستدام، وبما يضمن سداد قيمة القرض لاحقًا.
هكذا، تحوّل قطاع الكهرباء في لبنان إلى أسير النزوات والحسابات السياسيّة، وهو ما يدفع ثمنه المواطن اليوم من خلال فواتير المولدات الخاصّة المرتفعة. كما يدفع الاقتصاد اللبناني بأسره الثمن من خلال عدم توفّر البنية التحتيّة المطلوبة لتأمين الطاقة بشكل مستدام ومجد ماليًّا، للقطاعات الإنتاجيّة التي يمكن أن يراهن لبنان على نهوضها في المستقبل. فتأمين الطاقة بكلفة معقولة، يمثّل أحد العوامل الحاسمة التي تحدد تنافسيّة الإنتاج المحلّي، وهو ما عانت منه تاريخيًّا جميع القطاعات في لبنان.