هدأت أصوات ماكينات الحفر، وخفت حركة العاملين بعد أشهر من الضجيج الهادر الذي كسر السكون في أحياء مدينة أكتوبر الجديدة في مصر، إيذانا ببدء العمل في مسار القطار السريع.
فقد فاجأت الحكومة جهاز التعمير في مدينة حدائق أكتوبر، غرب القاهرة، التي كادت تنتهي من مد شبكات مرافقها الحيوية في طريق متسع بين الأحياء، بإرسال فرق فنية تتولى إزالة خطوط المياه والصرف والهواتف وتكسر الطرق حديثة العهد وتركب بدلاً منها لافتات: "مسار خط القطار السريع".
هكذا، بسرعة البرق، علقت اللافتات على جانبي الطرق وامتدت نحو 20 كيلومتراً بأحياء مدينة أكتوبر القديمة، وشرعت آلات الحفر في اقتلاع طريق الجيزة ـ الفيوم، بعد افتتاحه بأيام، لإنشاء كوبري علوي، سيمر من تحته القطار السريع القادم من الساحل الشمالي، حيث مدينتا العلمين والإسكندرية.
أسرعت آلات مقاول آخر، بإزالة طريق الواحات المتجه إلى قلب أحياء 6 أكتوبر القديمة، حيث فوجئ المواطنون بإزالة أشجارهم وقطع كوابل الهواتف والكهرباء، ووقف الأعمال بطرق كلفتهم ملايين الجنيهات، انتظروا سنوات لبدء تشغيلها، بعد إعلان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير النقل كامل الوزير على شاشات التلفاز بأن "القطار السريع قادم، حيث تنتهي المرحلة الأولى للربط بين العلمين والعاصمة وميناء العين السخنة، على خليج السويس، منتصف 2022".
كلفة مذهلة
بعد حملة إعلامية ضخمة، استهدفت تعريف المواطنين بأهمية مشروع تعتبره الحكومة إحدى أيقوناتها في خطة "مصر 2030"، تبين أن القطار سيكلف الموازنة العامة للدولة نحو 360 مليار جنيه (23 مليار دولار)، في مراحل أربع، ليربط شمال مصر بجنوبها وشرقها بغربها، تصل تكلفة الأولى منها نحو 125 مليار جنيه (8 مليارات دولار).
في زيارة ميدانية لبعض مواقع العمل المنتشرة على المسار الذي حددته وزارة النقل، يمكن مشاهدة لافتات تحمل أسماء الشركات التي ستتولى مراحل التنفيذ، وهي "المقاولون العرب" المملوكة للدولة، و"أوراسكوم" الخاصة. تبين الجولة أن أعداد العاملين والمعدات القليلة، لا تتناسب مع حجم مشروع عملاق وفريد من نوعه، كما تسوق له الحكومة.
تظهر المعدات التي يحملها مهندسو المواقع أن ما يفعلونه مجرد إزالة "سواتر ترابية" ومرافق ومسح ميداني لأرض المشروع، الذي تعهد رئيس الوزراء في تصريح نشر في 17 يناير/ كانون الثاني 2021، بأن المرحلة الأولى منه ستعمل بعد عامين، بالتوازي مع انتقال المؤسسات الحكومية، للعمل من مكاتبها في العاصمة الإدارية الجديدة.
باق من الزمن عدة أشهر، والحفر ما زال في مراحله الأولى، لا بل كشف أحد المهندسين أن الشركات العاملة لم تتسلم حتى الآن المسار النهائي للقطار، وأن الحكومة كلفت احدى الشركات الدولية، بإعداد دراسات جدوى فنية للمشروع ولكنها لم تنته بعد.
فالمشروع يحتاج إلى نحو 5.2 مليارات دولار للشركات المحلية فقط، لتنفيذ الأعمال الترابية وإقامة المحطات والأسوار والكباري والأنفاق التي يحتاجها مسار المرحلة الأولى، وفقا لتصريحات وزير النقل. وبينما يؤكد الوزير ذاته اتفاقه مع شركة "سيمنز" الألمانية على توريد المعدات الفنية والقطارات التي ستعمل على الخط، مقابل 3 مليارات دولار.
أرقام خفيّة
تظهر بيانات الوزارة ومجلس الوزراء، ولجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب المصري، أن الاتفاق مع سيمنز لم يصل إلى مرحلة التعاقد النهائي حتى الآن. وتحدد معلومات تلك الجهات، أن الاتفاق لا يزيد عن كونه مذكرة تفاهم، بين هيئة مترو الأنفاق المصرية وشركة سيمنز الألمانية، التي ستتولى تركيب المعدات الهندسية وتوريد القطارات، وأجهزة التحكم خلال عامين، من توقيع مذكرة التفاهم، في يناير عام 2021.
بمراجعة المخصصات المالية لهيئة مترو الأنفاق الواردة في ميزانية 2021ـ2022، لا يمكن رصد أية بيانات وجهتها الدولة للمشروع، سواء من الجانب المحلي لتغيير مسارات طرق رئيسية حديثة العهد، تتقاطع مع المشروع وأخرى في مساره. وتشمل الأعمال، شبكات مياه ضخمة وهواتف أرضية ونقالة، ومواسير معامل شركات قارون للبترول وأنابيب الغاز في مصانع دهشور وطريق العين السخنة.
وثالثة أهم، تتخطى المناطق الأثرية جنوب منطقة الأهرامات، وإقامة كباري عملاقة لعبور نهر النيل من الغرب إلى الشرق، وفوق ممرات الجبال الممتدة بالصحراء الشرقية، من العاصمة الإدارية حتى خليج السويس.
لا توجد أرقام نهائية حول تكلفة المشروع إلا في بيانات رئيس الوزراء ووزير النقل، من دون أي جهة رسمية أخرى، وكان أكثرها شرحا ما قاله الوزير، بأن الحكومة كلفت شركة " سيمنز" بأن تبحث عن مصادر لتمويل القطار السريع، من البنوك الدولية، مقابل أن تحصل عليه سيمنز بالأمر المباشر.
وفقا للوزير، فإن الشركة الألمانية، أخطرت مصر بقدرتها على تدبير القرض اللازم للجزء الخاص بها في حدود 3 مليارات دولار، من بنوك أوروبية، التي بدورها طلبت دفع عمولة تأمين مخاطر على القرض، في حالة عدم قدرة الجانب المصري على السداد، بنسبة 12.7 في المائة بما يوازي نحو 360 مليون دولار للمرحلة الأولى فقط.
وأعلن الوزير أنه أقنع شركة "سيمنز" بأن تطلب من البنوك إزالة تلك العمولة المرتفعة للغاية، موضحا أنه وعد الشركة اذا نجحت في ذلك، بمنحها المراحل الثلاث التالية لمشروعات القطار السريع، بالأمر المباشر.
وأكد الوزير أنه حرص على أن تكون المفاوضات النهائية حول التمويل تمت بين رئيس الدولة عبد الفتاح السيسي ورئيس مجلس إدارة سيمنز، والتي أجريت بالقاهرة مطلع عام 2021، أسفرت عن موافقة الجانب الألماني على كل مطالب الرئيس، وزيادة مدة السماح لبدء تسديد القرض لتصل إلى 6 سنوات، على أن تنتهي المرحلة الأولى خلال 24 شهرا.
اعتمد الوزير في تصريحاته على "ذاكرة السمك" التي أصابت الكثير من المصريين في الآونة الأخيرة، وبدأ في زحزحة موعد الافتتاح من منتصف عام 2022 إلى يوليو/ تموز 2023.
ومع ذلك تشير الأعمال الميدانية إلى صعوبة التنفيذ في أي موعد منهما، كما أكد أحد نواب البرلمان، لعدم ورود أية اتفاقيات تتعلق بالقروض التي يحتاجها المشروع إلى البرلمان حتى منتصف شهر فبراير/ شباط الحالي.
تباطؤ المشروع
في المقابل، يقلل خبراء من مخاوف عضو مجلس النواب بتأكيدهم على أن اتفاقيات القروض للجهات الحكومية والعامة، لم تعد تمر بالبرلمان قبل التعاقد عليها، لأنها أصبحت تأتي بقرارات جمهورية، تقضي الموافقة على تلك القروض، بعد أن تحصل الجهات الدولية أو المحلية على عقود التنفيذ بالأمر المباشر من رئيس الدولة أو رئيس الحكومة، كما حدث مع "سيمنز" وغيرها في مشروعات النقل أو الطاقة.
ويشير الخبراء إلى أن تعديلات الحكومة لقانون المزايدات والمناقصات عام 2014، منحت لرئيس الحكومة ومن يحدده، سلطة الإسناد المباشر، بدون سقف مالي، وخاصة الشركات التابعة للجهات السيادية التي أصبحت واجهة قانونية لمشروعات الطرق والكباري والسكك الحديدية التي كلفت تريليونا و660 مليار جنيه خلال الفترة من 2014 إلى 2021، وذلك دون مناقشة جدوى أي منها داخل البرلمان.
ويعلل الخبراء تباطؤ المشروع إلى صعوبات مالية لا تدفع المقاولين إلى الإسراع في التنفيذ، فالحكومة لم توفر التمويل المحلي، ومع زيادة الفوائد على الدولار واليورو، في الآونة الأخيرة، سيزيد الأمر سوءاً، فيما يخص المكون الأجنبي، بالإضافة إلى عدم وضوح الرؤية لدى الوزارة، التي أضافت في يناير 2022، محطة جديدة على المشروع تقع في مدينة البدرشين، جنوب الجيزة، لتربط خدمات القطار السريع، بخط السكة الحديد القديم الموازي لنهر النيل.
وتُغير الوزارة خططها باستمرار وفقا لمسارات المشروعات الأخرى التي تنفذها بدون دراسات عميقة مسبقة، مثل خط قطار "المونوريل" الذي يقطع مسار القطار السريع في مدينة أكتوبر، ثم يلتقي معه في محطة العاصمة الجديدة.
وبعد أن استهدف القطار توسيع رقعة التواصل بين المحافظات المصرية، أكد وزير النقل أن القطار السريع وروابطه الإقليمية، ستركز على خدمة رجال الأعمال والمواطنين ذوي الدخل المرتفع، والبضائع.
ستباع التذاكر بأسعار تنافسية للوسائل التقليدية، بما يضمن تحقيق أرباح للشركة الألمانية التي ستتولى إدارته وتشغيله وصيانته، لمدة 15 عاما. ويظهر المشهد الميداني تحركات لبعض المعدات، وتفجيرات لإزالة بعض قمم هضبة الصحراء الشرقية، لزوم تصوير فيلم دعائي عن المشروع، يذاع على القنوات المصرية في المناسبات الوطنية، فيما الأزمة المالية المستفحلة في مصر ستحدد مصيره الأخير.
توقف المشروع 3 مرات
تعرض المشروع للتوقف ثلاث مرات من قبل، الأولى منها مع بداية الألفية الثالثة، عندما طرح الدكتور إبراهيم دميري، وزير النقل حينها، إقامة خط سكة حديد بديل يربط بين العاصمة ومدينة أسوان يعمل بالكهرباء، وذلك لخدمة السياحة، ويختصر مدة الرحلة من 18 ساعة في المتوسط إلى نصف المدة، وينهي كوارث القطارات على الطريق القديم. بعد أيام من تقديمه الخطة، فقد الدميري منصبه، بسبب حريق شبّ في قطار الصعيد بمدينة العياط، جنوب الجيزة، راح ضحيته مئات من الفقراء الذي احترقوا في عربات الدرجة الثالثة.
أعاد المهندس هاني ضاحي طرح المشروع، للمرة الثانية خلال فترة حكم المجلس العسكري، وعرضت الصين تنفيذ ما يُسمى "القطار الطلقة"، التي تزيد سرعته على 350 كيلومتراً في الساعة، مقابل قرض قيمته 100 مليار يوان، فأعيد المشروع إلى الأدراج من جديد، بسبب التكلفة الباهظة.
مرّ المشروع بمناقشات جدية بعد عام 2013، في أثناء تولي المهندس هشام عرفات الذي روج له لدى جهات التمويل الدولية، ولم يستمر في منصبه، بعد حادث قطار آخر، فسكت الكلام عنه، إلى أن فوجئ المصريون بعودة الحديث عن بدء تنفيذ المشروع مطلع عام 2020.
رغم تخفيف سرعة القطار ليصبح في حدود سرعة 230 كيلومتراً في الساعة، إلا أن المبالغ الهائلة من العملات الصعبة والمحلية، التي يحتاجها قطاع النقل لاستكمال مشروعات "مونوريل القاهرة الكبرى"، المتأخر جدول تنفيذه نحو العام، ومشروع القطار الكهربي شرق العاصمة المتعطل افتتاحه منذ أكتوبر الماضي، واستكمال خطوط المترو وقروض تطوير السكك الحديدية القديمة، ستحدد المآلات الجديدة، لقطار تحتاجه البلاد، بينما يظل حلماً أكبر من طاقاتها، حيث تنفق الأموال على مشروعات باهظة الكلفة، دون دراسة أوعلم بفقه الأولويات.