في مثل هذه الأيام قبل 20 عاماً، كان الرأي العام الروسي منشغلاً بواقعة اعتقال رئيس ومالك شركة النفط الروسية "يوكوس" ميخائيل خودوركوفسكي عند هبوط طائرة من طراز "تو-134" كانت تستأجرها "يوكوس"، للتموين في مطار "تولماتشوفو" في مدينة نوفوسيبيرسك الواقعة في سيبيريا في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2003.
أبعدت الطائرة فور هبوطها إلى موقع انتظار ناءٍ، حيث حاصرتها حافلات ذات زجاج مظلل، واقتحمها مجموعة من أفراد جهاز الأمن الفيدرالي الروسي الذين رافقوا خودوركوفسكي إلى مبنى المطار. وبعد مرور ساعة ونصف الساعة فقط، أرسل الملياردير المعتقل إلى موسكو على متن طائرة خاصة.
في ذلك الوقت، كان خودوركوفسكي البالغ من العمر 40 عاماً فقط حينها، أثرى أثرياء روسيا برأسمال 15 مليار دولار، ولكنه تحول بين ليلة وضحاها إلى معتقل سياسي سيقضي السنوات العشر التالية خلف القضبان. تخللت ذلك تساؤلات حول وجود دوافع سياسية لملاحقته ورسم ملامح جديدة لعلاقة الكرملين بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين مع طبقة الأوليغارشيا الداعمة للرئيس الراحل، بوريس يلتسين، والزيادة التدريجية في تحكم الدول في مفاصل الاقتصاد، بمعنى الانتقال من الأوليغارشية إلى رأسمالية الدولة.
تجدر الإشارة إلى أن الأوليغارشية أو حكم الأقلية هي شكل من أشكال الحكم، بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية، في حين أن رأسمالية الدولة هي طريقة لوصف المجتمع الذي تكون فيه القوى المنتجة مملوكة ومدارة من الدولة بشكل رأسمالي، حتى لو سمّت تلك الدولة نفسها اشتراكية.
خلاف شخصي مع بوتين؟
جاء اعتقال خودوركوفسكي بذريعة تخاذله عن الحضور إلى النيابة العامة الروسية للاستجواب في قضية "يوكوس" التي قد اعتقل شريكه، بلاتون ليبيديف، في إطارها في منتصف عام 2003. وفي اليوم ذاته، نقل خودوركوفسكي إلى إدارة التحريات بالنيابة العامة في موسكو، حيث وجهت إليه تهم بموجب سبع مواد من القانون الجنائي الروسي.
وبعد أيام عدة، علق بوتين على إمكانية التسوية المالية للقضية، قائلاً: "لا لقاءات ولا مساومات بشأن أعمال جهات الأمن". هكذا أصبح واضحاً أن خودوركوفسكي لن يخرج من السجن قريباً.
وعلى مدى فترة طويلة، ساد الاعتقاد بأن سبب اعتقال خودوركوفسكي يعود إلى خلافه الشخصي مع بوتين والذي خرج إلى العلن في فبراير/شباط 2003 حين التقى الرئيس مع رجال الأعمال. تناول اللقاء ظاهرة الفساد، واتهم خودوركوفسكي ديوان الرئاسة صراحة بأن عملية شراء الشركة الحكومية "روس نفط" للشركة الصغيرة "النفط الشمالي" مقابل مبلغ ضخم قدره 600 مليون دولار تخللتها وقائع فساد. وردا على ذلك، سأل بوتين عن مشكلات "يوكوس" الضرائبية، قائلاً في ختام هذا الحوار التاريخي: "أعيد إليكم كرتكم".
وبعد مرور عقدين على اعتقال خودوركوفسكي، يشير كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، إلى أن قضية "يوكوس" شكلت نقطة فاصلة في تاريخ روسيا ما بعد السوفييتية من جهة تغيير قواعد اللعبة بين السلطة وطبقة الأوليغارشيا الناشئة، معتبراً في الوقت نفسه أن الرأي العام الروسي سجل نقاطاً لبوتين على ترويضه مليارديرات يلتسين، واستعادة سيطرة الدولة على قطاع الطاقة.
ويقول أندرييف في حديث لـ"العربي الجديد": "باستثناء أوساط الليبراليين الراديكاليين الذين يشاركونهم فكرهم ورؤاهم الاقتصادية، كان المجتمع الروسي عند اعتقال خودوركوفسكي يتبنى مواقف معادية للأوليغارشيا، وكانت جميع استطلاعات الرأي حينها تظهر أن السكان يدعمون الرئيس في حملته، والمجتمع راض عن تمكّنه من ترويض طواغيت المال الذين كانوا خارج السيطرة".
ويقر بأن ملاحقة خودوركوفسكي شكلت حلقة فاصلة في طي صفحة يلتسين، مضيفاً: "في ذلك الوقت، كانت السلطة تغير قواعد اللعبة مع طبقة الأوليغارشيا الناشئة، واضعة شروطاً أصبح من رفضها إما في المنفى وإما في السجن، كما هو حال خودوركوفسكي الذي دفع ثمن عناده".
"اللص مكانه السجن"
منذ عام 2003، جرت ملاحقة خودوركوفسكي جنائياً بتهم الاحتيال والتهرب من دفع الضرائب، إلا أن بوتين نفى ذلك مراراً، مؤكداً أن القضية اقتصادية بامتياز، وأن "اللص مكانه السجن"، قبل أن يقرر العفو عنه قبيل انطلاق دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي في عام 2014، وسط سعي الكرملين لتحسين صورته على الساحة الدولية في ذلك الوقت.
ويعتبر مدير عام "مركز الإعلام السياسي" في موسكو، أليكسي موخين، أن ملاحقة خودوركوفسكي جرت في إطار عملية دمج قطاع الأعمال ضمن هرم السلطة، مشيراً إلى أن الملياردير السابق لم يف بوعوده المتعلقة بعدم ممارسة العمل السياسي عندما طلب العفو عنه.
ويقول موخين لـ"العربي الجديد": "جرى اعتقال خودوركوفسكي في إطار حملة إعادة دمج قطاع الأعمال ضمن هرم السلطة وتطبيق قواعد جديدة للعبة".
وحول رؤيته لدوافع بوتين للعفو عن خودوركوفسكي في نهاية عام 2013، يضيف: "جرى العفو عن خودوركوفسكي بناء على طلبه حتى يتمكن من توديع أمه المريضة قبل رحيلها، ولكنه لم يف بوعوده بعدم الانخراط في العمل السياسي، بل فقد تماماً الصلة بالواقع وبوطنه، بعد أن أعمته الرغبة في الانتقام من بوتين التي سيطرت عليه".
وفور الإفراج عنه، غادر خودوركوفسكي الأراضي الروسية إلى أن استقر به الحال في المملكة المتحدة، والتي عاد منها إلى المشهد السياسي الروسي، ممولاً مجموعة من وسائل الإعلام الروسية المعارضة التي أغلقت في عام 2021، ومطلقاً قناة "خودوركوفسكي لايف" على يوتيوب والبالغ عدد مشاهداتها أكثر من 800 مليون.
وبعد بدء أعمال القتال في أوكرانيا في بداية العام الماضي، تحول خودوركوفسكي في منفاه إلى أحد أبرز معارضي الحرب في المشهد الإعلامي الروسي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
كما سبق لخودوركوفسكي أن زار كييف في بداية عام 2014 في أعقاب سقوط الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، وألقى كلمة بميدان الاستقلال وسط العاصمة الأوكرانية، أعرب خلالها عن تضامنه مع الأوكرانيين.