لم نسمع للبرلمان المصري صوتاً ورأيا في أخطر القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وحتى الآن، بخاصة المتعلقة بتعويم العملة المحلية والسماح بتهاويها 4 مرات مقابل الدولار، وإقرار زيادات غير مسبوقة في أسعار السلع والخدمات الأساسية لترفع مستوياتها بدرجة قياسية، والسماح كذلك بدهس المواطن الفقير وإذلاله، وتهاوي الطبقة الوسطى، والتفريط في أراضٍ مصرية.
منذ ذلك الوقت حصلت الحكومة المصرية على قروض خارجية تجاوزت قيمتها 100 مليار دولار، إضافة إلى عشرات المليارات الأخرى التي حصلت عليها الهيئات التابعة لها خاصة الهيئة العامة للبترول وهيئة السلع التموينية وهيئة السكك الحديدية ولا نعرف الكثير عنها.
ولم نجد رقابة عى تلك التلال من القروض سواء سابقة أو لاحقة من البرلمان، أو أن يخرج علينا أحد النواب ليسأل سؤالا مشروعا هو عن أوجه انفاق تلك المليارات من الدولارات، وهل تم انفاقها بالشكل الصحيح، أم تم بعثرتها على مشروعات ومؤتمرات بغرض الوجاهة ليس إلا.
الكارثة هي أنّ الحكومة لم تكلف نفسها بعرض تفاصيل معظم تلك القروض على البرلمان، ومنها اتفاقها الأخير مع صندوق النقد
وخلال تلك الفترة " 2016-2023" التي تدفقت فيها القروض على مصر من كل صوب وحدب لم نسمع للسلطة التشريعية، الممثلة في البرلمان، صوتا ولا استجوابا بشأن قرض واحد، ولا شفافية تتعلق بأوجه الانفاق، ولا تفصيلاً لشروط تلك القروض والالتزامات المترتبة عليها، ولا رفضا لشروط مجحفة ظالمة يسعى الدائنون وبكل قوتهم إلى فرضها على الحكومة المقترضة.
كلّ ما كنا نعرفه على أوقات متباعدة هو موافقة البرلمان على قروض متلاحقة حصلت عليها الحكومة من مؤسسات دولية وإقليمية عدة لأغراض شتى منها دعم الأمن الغذائي وتطوير شبكة المواصلات ومترو الانفاق ومعالجة الصرف الصحي ومعالجة أمراض وتمويل مشروعات بنية تحتية وغيرها.
لكن بالنسبة للدين الأهم في تاريخ البلاد والمتعلق بحصول مصر على 3 قروض من صندوق النقد الدولي تتجاوز قيمتها 23.5 مليار دولار خلال فترة لا تتجاوز 5 سنوات، فلم نسمع مناقشة لبنودها الخطيرة من قبل البرلمان.
ولم نقرأ عن اعتراض من السلطة التشريعية على الاشتراطات المذلة والمجحفة التي فرضها الصندوق على مصر ومنها التعويم المتواصل للجنيه واجراء 3 تعويمات في أقل من عام، وخفض الدعم الحكومي الموجه للفقراء، واجراء زيادات متواصلة في الضرائب والرسوم، وفرض ضرائب لم تعرفها البلاد من قبل مثل القيمة المضافة، وبيع أصول الدولة وغيرها.
والكارثة هي أنّ الحكومة تجاهلت السلطة التشريعية تماما، ولم تكلف نفسها بعرض تفاصيل معظم تلك القروض على البرلمان، ومنها اتفاقها الأخير مع صندوق النقد حتى الآن، أو إطلاع النواب على تفاصيله على الرغم من دخوله حيز التنفيذ ووصول أول شريحة من القرض الجديد والبالغة قيمتها 347 مليون دولار، في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وبذلك تكرر الحكومة سيناريو قرضي 2016 و2021، حيث لا حس ولا خبر عن تلك التلال من القروض.
لم نقرأ عن اعتراض من السلطة التشريعية على الاشتراطات المذلة والمجحفة التي فرضها الصندوق على مصر ومنها التعويم المتواصل للجنيه
وقبل يومين كشف البنك المركزي المصري عن تجديد ودائع مستحقة لدول خليجية بقيمة تتجاوز 2.6 مليار دولار منها مليارا دولار كانت مستحقة للكويت وتم مد أجلها لمدة عام إلى سبتمبر 2023.
لم يقل لنا البرلمان على أي أساس تم تجديد تلك الودائع وغيرها من ودائع خليجية لدى البنك المركزي تتجاوز قيمتها 28 مليار دولار، وما تكلفة التجديد، وما نسبة الزيادة في سعر الفائدة المستحقة عليها، وهل هناك بدائل كانت أقل تكلفة منها.
يتكرر المشهد مع القروض والودائع الأخرى التي حصلت عليها الحكومة من البنك الدولي وحكومات إقليمية ودولية ودائنين دوليين وتمثل إرهاقاً للموازنة العامة للدولة والمواطن والأسواق والعملة والدين العام والاقتصاد القومي.
وخلال أيام تصل بعثة من صندوق النقد الدولي إلى القاهرة لإجراء مراجعة للاتفاق الأخير ضمن 8 مراجعات تتم على فترة 46 شهراً، فهل نسمع للبرلمان صوتاً، أم كالعادة ينتظر التعليمات الفوقية، لربما يفتح ولو صفحات قليلة في ملف السفه في الاستدانة الخارجية، أو يهاجم الحكومة على توسعها في الاقتراض بعد خراب مالطة.
البرلمان وبهذا الصمت المريب والمتواصل لأخطر قرارات اقتصادية في تاريخ البلاد يخالف المادة 127 من الدستور
البرلمان وبهذا الصمت المريب والمتواصل لأخطر قرارات اقتصادية في تاريخ البلاد يخالف المادة 127 من الدستور التي تقضي بـ"عدم جواز اقتراض السلطة التنفيذية، أو حصولها على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج في الموازنة العامة المعتمدة، يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلّا بعد موافقة مجلس النواب".
فهل قرأ هؤلاء النواب نصوص الدستور، أم يحفظونه عن ظهر قلب، لكن لا تأتيهم الجرأة لفتح ملفات مسكوت عنها ومنها تلال القروض المتراكمة والتي تمثل أزمة حقيقية للاقتصاد المصري في السنوات المقبلة؟