لم يدخر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان أي سلاح، داخلي أو خارجي، اقتصادي أو سياسي أو حتى اجتماعي، إلا ورماه، وربما مع تصاعد وتيرة الحملة الانتخابية التي ستشهدها تركيا في 14 مايو/ أيار المقبل، نرى ضرباً تحت الأحزمة، بقضايا تتعلق بدعاوى بحق المنافس الأبرز رئيس الحزب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو أو كشفا لقضايا تثير حفيظة الأتراك، من قبيل التعامل مع الخارج بما يخص قضايا داخلية حساسة أو محاولات المس بحريات ومكاسب الديمقراطية التي أرسى دعائمها، مصطفى كمال أتاتورك إبان تأسيس الجمهورية قبل مئة عام من اليوم، إذ دائما ما يتفق الجميع على أن الانتخابات لعبة، ويجوز استخدام كل الأساليب باللعبة لتحقيق الفوز.
ولأن مرض تركيا ومسعاها الاقتصاد ومطالب الناخبين في جلها، تتركز على تحسين الوضع المعيشي والأداء الاقتصادي الكلي، رأينا ولم نزل، مفاجآت يومية يرمي بها الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" من شأنها، وإن بتفاوت، أن تؤثر على الناخب التي الذي عُبّئ خلال الفترات السابقة، على الحكومة والرئيس والفريق الاقتصادي.
فتضخم الأسعار الذي أكل الأجور، رغم رفعها مرتين خلال العام الماضي ومرة مطلع الجاري، بات الفيصل بين ما يقال وما يلمسه الأتراك في الأسواق، فجاء إعلان هيئة الإحصاء التركية أخيراً، عن تراجع معدل التضخم إلى 50.51 بالمئة على صعيد سنوي، ليواصل بذلك التضخم تباطؤه للشهر الخامس على التوالي، بعد أن تعدى 85% نهاية العام الماضي.
بل وتعهّد الرئيس التركي، خلال إعلانه عن البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، بتأمين تراجع التضخم إلى خانة الآحاد عقب الانتخابات المقبلة، إلى جانب زيادة على الأجور.
وحمل البرنامج الانتخابي للحزب الحاكم بتركيا، بعد أن بلغ حجمه 500 صفحة "ضعف برنامج المعارضة" ربما كل ما يشغل الشارع التركي، من هواجس أمنية ومطالب اقتصادية وتطلعات لحجز مكان ومكانة على خريطة الكبار.
...بعد نزول سيارة "توغ" التركية الشوارع وإطلاق أول قمر صناعي صنع تركيا "إيمجة" من قاعدة فاندنبرغ في كاليفورنيا إلى الفضاء، وتسليم حاملة الطائرات، السفينة "تي سي الأناضول" إلى القيادة البحرية، كبادرة حسن نيّة وتأكيد الوعود السابقة بالأفعال.
فملامح قوة تركيا لم يغيّبها البرنامج، خاصة وفق لغة القوة للرد على الاستقواء، فرأينا على صعيد الصناعات الدفاعية وعودا ببلوغ صادراتها 15 مليار دولار والتذكير بتدشين أول حاملة طائرات مسيرة في العالم وما حققته الصناعة على صعيد المسيرات، كمثل "بيرقدار تي بي 3" ومسيرة "قزل ألما" الهجومية اللتين أتى على ذكرهما البرنامج.
وشمل البرنامج فيما شمل اقتصادياً، إعادة هيكلة الديون واستمرار برنامج الودائع بالليرة التركية المحمية إلى جانب دعم النمو الاقتصادي ليصل إلى 5.5% العام المقبل وتنمية الاقتصاد من خلال الاستثمار والتوظيف والإنتاج والصادرات والفائض الحالي، ليصل إجمالي الناتج المحلي إلى 1.5 تريليون دولار بنهاية عام 2028.
ولم ينس الرئيس التركي مطالب الشباب، الفئة التي يخشى تسرّبها من صناديق حزبه، فأطلق وعوداً حول تحسين الدخل وقروض الزواج واستثمارات الإنترنت، واعداً بالجديد والمزيد فيما يخص ما يسمى "فئة Z" لتصل الوعود بإطلاق أول رحلة للفضاء بقودها شاب خلال حزيران المقبل.
قصارى القول: لأنه لا مصرف يحوّل الكلام أموالاً، حاول الرئيس التركي، إضافة لما نراه يومياً من مشروعات خدمية، رمي مشروعات كبيرة على الأرض، مشروعات ينتظرها الشعب التركي منذ سنوات، مشروعات يمكن أن تغيّر عملياً، من واقعه المعيشي ونظرة العالم لبلده كقوة اقتصادية وعسكرية مقبلة، أو حتى عملاق يستيقظ.
ربما أول وأهم ما ينتظره الأتراك، وصول مئات مليارات أمتار الغاز التي أعلنت أنقرة اكتشافها بالبحر الأسود قبل عامين، ليأتي الرد بأن 20 الجاري سيشهد المرحلة الأولى من استخدام الغاز الطبيعي ويتم نقله للمنازل منتصف مايو المقبل.
وينتظرون مشروع القرن ودخول بلادهم النادي النووي السلمي، ليأتي الرد أيضاً، بتدشين المرحلة الأولى لمفاعل الطاقة النووية "آق قويو" في السابع والعشرين من ابريل/نيسان الجاري خلال زيارة متوقعة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين إلى تركيا.
ولأن الوعود، منذ عقد، بتحويل إسطنبول إلى مركز مالي عالمي، يأتي اليوم افتتاح مركز إسطنبول المالي على مساحة 1.4 مليون متر مربع، ليتم نقل المؤسسات المالية، من تركيا وخارجها، للمركز المتكامل وفق طراز المدينة الذكية.
نهاية القول: ربما السؤال الأهم هنا، وماذا يفعل الآخر، بعد أن جمعت المعارضة ولأول مرة، أعداء أردوغان التقليديين "الشعب الجمهوري" مع أصدقاء الأمس "حزب المستقبل" الذي أسسه، رئيس الوزراء السابق ورفيق وشريك أردوغان، أحمد داود أوغلو وحزب "الديمقراطية والتقدم" الذي أسسه وزير الاقتصاد السابق، ورفيق أردوغان أيضاً، علي بابا جان، مع ثلاثة أحزاب أخرى ضمن "الطاولة السداسية" لتكون ربما انتخابات مايو المقبل، هي الأصعب والأكثر مصيرية، للرئيس أردوغان وبلاده.
الأرجح، ليس بيد المعارضة من أسلحة، سوى الوعود ومحاولة كشف ما تراه فساداً واستئثاراً بالسلطة لحزب يحكم منذ 20 عاماً، إذ وببساطة، موقعها خارج السلطة يجردها من أي فعل على الأرض، سوى رمي وعود، ليس من السياسة تجاهلها أو الاستهانة بها، لأنها ببساطة، تلامس جل أوجاع الأتراك وتطلعاتهم.
فأن تتركز المحاور على "القانون والعدالة والقضاء" و"الإدارة العامة" و"مكافحة الفساد والشفافية والتدقيق" و"الاقتصاد والتمويل والتوظيف" و"العلوم والبحث والتطوير والابتكار وريادة الأعمال" و "التحوّل الرقمي" و"سياسات القطّاعات" و"التعليم والتدريب" و"السياسات الاجتماعية" و"السياسة الخارجية والدفاع والأمن والهجرة" فهذا يعني أن الآخر المتربص، لم يترك جانباً عليه الحزب الحاكم يميل.
بل ولتستميل المعارضة مزيداً من الأصوات، وعدت بفتح القصور والاستراحات الرئاسية أمام الجمهور، وبيع بعض الطائرات التابعة لرئاسة الجمهورية، بعد أن تعهّدت بإنشاء مكتب الأصول لوضع اليد على الأموال المهربة والإيرادات المحصلة من الفساد، بعد أن قطعت للشعب وعداً، بإغلاق صندوق الثروة التركي وإنهاء نظام إيداع الليرة التركية المحمي بحسب سعر الدولار.
إذاً، يبدو أن الانتخابات المقبلة، أمام معارضة عملت واختبرت ذهنية الرئيس أردوغان وكان بعضها، ضمن مؤسسي حزبه، لن تكون نزهة على الإطلاق، بل على الأرجح أن تغيّر من ملامح تركيا وتحالفاتها، إن لم يستعد الحزب الحاكم ثقة المستهلكين، وربما لا سلاح يشهّر، أمضى من تحسين معيشتهم وعودة العز إلى ليرتهم.