تراجع المعروض من البضائع واختفت قوائم الأسعار... هذه هي الحال داخل المتاجر والأسواق المصرية، خلال الأيام الماضية، انتظاراً لما ستسفر عنه القيمة الجديدة للعملة الوطنية، بعدما رفع البنك الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة الأسبوع الماضي، ما يثير مخاوف واسعة من انعكاسات سلبية على الوضع المالي لمصر ويدفع الجنيه إلى مزيد من التراجع أمام الدولار ويزيد من قفزات أسعار مختلف السلع والخدمات.
لا فرق بين حال أسواق المراكز التجارية الفاخرة، والسويقات المنتشرة بين الشوارع في القرى والأحياء في مصر. الجميع يقف على أهبة الاستعداد، لما سيسفر عنه وضع الجنيه أمام الدولار خلال الأيام المقبلة.
بينما لم تستطع السلاسل التجارية الكبرى، وفروع الشركات الأجنبية، تعويض البضائع التي تبيعها، منذ تطبيق قرارات الاستيراد الجديدة التي فرضها البنك المركزي في 17 مارس/آذار الماضي، لعدم قدرة البنوك على توفير العملة الصعبة للموردين، وتراكم البضائع المستوردة في الجمارك.
على سبيل المثال، لجأت شركات الملابس إلى عرض المخزون الراكد لديها، وظهر أغلبها خالية من أيّ منتجات حديثة.
وفي جولة لـ"العربي الجديد"، في سلاسل تجارية بالقاهرة والجيزة، والمدن الجديدة حولهما، على مدار الأسبوع الماضي، برر بائعو فروع لسلاسل تجارية أجنبية عالمية، استمرار بيعهم الملابس الشتوية، رغم حلول الصيف، بأنّ السلع المتفق عليها لم تخرج من الجمارك منذ شهرين.
وعرضت الشركات المصرية بواقي الإنتاج من المصانع المحلية، وفقا للأسعار الجديدة، بزيادة تصل إلى 30% عن نفس الملابس التي عرضت في نهاية الموسم الصيفي لعام 2021، فيما فضلت أغلب الشركات إزالة السعر من اللاصق المطبوع على القطع، مكتفية بوضع أكواد للبيع، فلا يمكن معرفة قيمة السلعة إلا بعد عرضها على جهاز "سكانر".
وتمددت الظاهرة إلى السلع المعمرة في المحلات الكبرى، خصوصاً الكهربائية، ومنها انتشرت إلى باقي محلات البقالة المتوسطة، التي تصدر فواتير حاسوبية.
وعند الولوج للمحلات، لن تشهد إلّا أرقاماً مكتوبة يدوياً بأرقام كودية لا يفهمها العملاء، فإذا سألت عن ثمن الشراء، يحمل السلعة أحد العاملين، وبعد قراءتها على الحاسوب، يخبرك بالنتيجة.
وبينما يتزاحم المتسوقون بمشترياتهم على صناديق الكاشير، يبدأ الاطلاع على الأسعار، دفعة واحدة، فإما أن يرتضي المتسوق بالسعر الذي يشتري به أو يشتري سلعاً ويترك أخرى، بل ربما يخرج خالي الوفاض.
ولم تجد "العربي الجديد" في جولاتها تسعيرة موحدة لسلعة واحدة، مشتركة بين الجميع، فكلّ محل يحتفظ لنفسه بسعر يراه عادلاً للبيع.
يبرر التجار ذلك بأن الأسعار تأتيهم يومياً، حسب توافرها في المخازن، لدى المستوردين أو الموردين من الشركات المصرية، ووفقاً للارتفاعات التي تحدث في تكاليف الإنتاج، التي تتغير من يوم إلى آخر، بحسب سعر الدولار، وسماح الحكومة بدخول مكوناتها من الخارج.
وفي الأسواق الشعبية، يعرض كل بائع السعر الذي يريده، إذ يبرر التجار ذلك بأنهم يضطرون إلى دفع قيمة بضائعهم بالكامل لتجار الجملة، بدلاً من سياسات الائتمان المتبعة من قبل، عندما كانوا يتحصلون على الكميات المعتادة من البضائع، بنظام الأمانة.
يقول أحد التجار: "الكلّ يعمل بماله، فلا أمان ولا ائتمان، ما يجبرنا على ضرورة الاتفاق على بيع كميات أقل بأفضل سعر، لنتمكن من شراء البضائع لليوم التالي، وإلا تعرضنا لكارثة وتوقفت حركة البيع والشراء".
يفتقد التجار الثقة بينهم، مع حالة عدم يقين بما هو آت في الدولة. البعض يتخوف من المزيد من الكوارث على الطريق، مع ارتفاع قيمة الفائدة على الدولار الأميركي، وتوقع زيادة الفائدة على الجنيه المصري، بما يعني المزيد من التضخم، الذي سيصيب الجميع.
يقول رئيس لجنة التجارة الداخلية في شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية، متى بشاي، إنّ المستوردين يواجهون صعوبات، سواء في مستلزمات الإنتاج أو السلع تامة الصنع، نتيجة البطء في فتح الاعتمادات المستندية الخاصة بالاستيراد.
يشير بشاي، إلى خطورة الأمر على المصانع المحلية، مع تكدس البضائع الشديد في الموانئ، لافتاً إلى أنّ ذلك سيؤثر على حركة الإنتاج المحلي، وتشغيل المصانع والسلع التي ستصدّر للأسواق الدولية.
بدوره، يقول عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، أسامة الشاهد، إنّ هناك ضرورة لتنفيذ وعود الحكومة التي التزمت بها بدعم الصناعة المصرية، التي تمثل 17% من الناتج القومي الإجمالي، وتستهدف رفع صادراتها إلى 28 مليار دولار، بنهاية العام الجاري.
وفي السياق، تؤكد رئيسة المجلس التصديري للملابس، ماري لويس، أنّ الاحتياطي في مخازن مصانع الملابس، لا يكفي التشغيل لمدة شهر.
ولجأت الكثير من المصانع إلى تخفيض عدد ورديات (مناوبات) العمل، خاصة في مصانع الملابس والإلكترونيات والكيميائيات.
ويقول عضو مجلس إدارة الشعبة العامة للمستوردين في اتحاد الغرف التجارية، حمادة العجواني، إنّه يجب الإسراع في عقد اجتماع بين الحكومة وممثلي الصناعة والتجارة من مختلف القطاعات، للتعرف على طلباتهم، في ظل القيود المفروضة على الاستيراد، وتغيير سعر العملة والارتفاع العالمي في أسعار السلع والخدمات.
وفي مقابل الأصوات التحذيرية التي تتصاعد والجهر بالشكوى من قبل ممثلي مختلف المجالات، يؤمن وزير المالية محمد معيط أنّ الاقتصاد المصري لديه قدرة على التعامل المرن مع الصدمات الداخلية والخارجية، ومنها أزمة كورونا، مشيراً إلى أنّ الاقتصاد سيتمكن من تخطي الموجة التضخمية غير المسبوقة، جراء الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقال معيط في بيان أخير: "نحن حريصون على تحقيق الانضباط المالي والحفاظ على المسار الاقتصادي الآمن للدولة". بدورهم، يرى مسؤولون في قطاعات إنتاجية وتجارية عدة أنّ كلمات الوزير لا تطابق واقع الحال في الأسواق، التي أصبحت تتحرك وفق أهواء متفرقة، لا يمسك بمفاتيحها كبار التجار أو الموزعون، في ظل شح البضائع وارتباك الجميع.
وتعهدت الحكومة مؤخراً بنزول أجهزتها الرقابية إلى الأسواق، لضبط الأسعار، ومحاسبة من وصفتهم بـ"التجار الجشعين" وملاحقتهم بجيش من مفتشي التموين البالغ تعدادهم 8 آلاف موظف في أنحاء البلاد، بينما يظل انفلات الأسعار مستمراً، في ظل سوق تربكه قرارات المسؤولين ويندفع الناس تحت ضغط الحاجة وندرتها إلى الشراء رغم ارتفاع الأسعار بمنوال يتكرر يومياً.
وتواجه مصر صعوبات اقتصادية ومالية واسعة بسبب تضررها من الحرب الروسية في أوكرانيا. وتجري الحكومة محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد يصل إلى 3.5 مليارات دولار، بينما كانت قد حصلت على أكثر من 20 مليار دولار منذ نهاية عام 2016 مقابل تنفيذ اشتراطات دفع ثمنها الفقراء ومتوسطو الدخل، بعد رفع الحكومة أسعار الكهرباء والغاز والسلع الأساسية، وفرضت المزيد من الضرائب على الاستهلاك، في إطار تقليص الدعم وزيادة العائدات الجبائية.
وفي مقابل هذه السياسات، واصل العجز المالي تفاقمه وارتفع الدين الخارجي إلى مستوى قياسي بلغ نحو 145.5 مليار دولار في بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، مقابل 137.42 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول من العام نفسه، بزيادة تقدر بنحو 8.109 مليارات دولار خلال 3 أشهر فقط، وبنسبة زيادة بلغت 5.9%.
كما تراجع الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية بشكل حاد في مارس/آذار الماضي، ليصل إلى 37.082 مليار دولار، مقابل 40.99 مليار دولار بنهاية فبراير/شباط الماضي.
وحذّرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في إبريل/نيسان الماضي، من تدهور اقتصاد مصر، معتبرة أنّ البلد بحاجة إلى مواصلة الإصلاحات مع الصندوق.
في المقابل، يرى محللون أنّ إذعان الحكومة المصرية إلى اشتراطات جديدة من جانب الصندوق سيحمل تداعيات أشد وطأة على المصريين من الاشتراطات التي جرى تطبيقها على مدار السنوات الست الماضية.