تهدد المخاطر الجيوسياسية الآفاق الاقتصادية لعام 2024، حيث تتقاطع الحروب واسعة النطاق مع سلسلة كبيرة من الانتخابات المحورية عند القوى العالمية الكبرى، الأمر الذي اعتبره محللون ملبداً لسماء بيئة الاستثمار العالمي بالغيوم، ومعقداً لعملية اتخاذ القرار عند المستثمرين وقطاعات العمال.
وبينما ترسم المؤسسات المالية العالمية المشهد الاستثماري للعام المقبل، فإنها تتوقع خلفية جيوسياسية مشحونة بشكل متزايد وتباينًا أكبر بين المناطق الرئيسية، مما يؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين وتقلبات الأسواق.
وفي دراسة استقصائية للأخطار العالمية أجرتها مؤسسة أكسفورد إيكونومكس على 130 شركة الشهر الماضي، رأى ما يقرب من خمسي المشاركين في الاستطلاع أن الحرب المستمرة على غزة منذ 46 يوماً تشكل خطراً كبيراً للغاية على الاقتصاد العالمي على مدى العامين المقبلين.
ومع ذلك، كانت المخاوف بشأن توتر العلاقات بين الصين وتايوان، وروسيا وحلف شمال الأطلسي، منتشرة على نطاق واسع بالمثل، بينما كانت التوترات الجيوسياسية هي مصدر القلق الأكبر في قطاع الأعمال على المدى القريب والمتوسط، حيث أشارت 62% من الشركات إلى المخاوف الجيوسياسية (أي المرتبطة بالجغرافيا السياسية) باعتبارها التهديد الأكبر للاقتصاد العالمي.
وقال باحثون في جامعة أكسفورد إيكونومكس بحسب "سي أن بي سي" إن تراجع العولمة والارتفاع المستمر في أسعار النفط، وكلاهما يمكن أن يرجع سببه إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية، احتلا مرتبة متقدمة ضمن المخاطر التي تهدد آفاق الاقتصاد العالمي خلال الفترة القادمة.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2024، وسط اتساع التباين بين المناطق، ما بين نمو قوي في الولايات المتحدة والأسواق الناشئة الكبيرة، وتراجع متوقع في الصين ومنطقة اليورو، اللتين تواجهان بالفعل صعوبات حالية.
وفي توقعاتها الاستثمارية لعام 2024 التي نشرتها أمس الاثنين، أشارت شركة غولدمان ساكس لإدارة الأصول في بيان نشرته "سي أن بي سي" إلى أن الانتخابات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجنوب أفريقيا والهند وتايوان وروسيا ربما تسبب مزيدا من الانحراف للاقتصاد العالمي عن مساره.
وأشار عملاق إدارة الأصول إلى أن المخاوف بشأن القدرة على تحمل الديون الحكومية والمسار المالي في الولايات المتحدة قد تتصاعد في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في حين أن الأخطار الاجتماعية والاقتصادية المحلية، مثل الإضرابات في بعض الصناعات وسط التضخم العنيد، يمكن أن تستمر في الاقتصادات الكبرى، وقد تؤثر بشكل أكبر على النمو.
وتابع غولدمان ساكس موضحاً "تلك التوترات يمكن أن تؤدي إلى فرض المزيد من القيود التجارية في جميع أنحاء العالم، ما يعني مزيد من التفتت الاقتصادي". وتوقع البنك في ذلك الصدد أن تستمر الاقتصادات في الاستثمار بكثافة في أمنها الاقتصادي خلال الأشهر الإثني عشر المقبلة وما بعدها، وهو الأمر الذي ربما يكون مدفوعًا بإعادة دعم الأسواق المتقدمة، وسلاسل التوريد الحيوية التي تظل مترابطة إلى حد كبير، وفي بعض الحالات، شديدة التركيز، مثل سوق أشباه الموصلات.
وردد هذا الرأي رونالد تمبل، كبير استراتيجيي السوق في شركة إدارة الأصول "لازارد"، الذي قال في تقرير التوقعات العالمية الأسبوع الماضي إنه على الرغم من أن التنبؤ بمسار أي أزمة جيوسياسية هو أمر محفوف بالأخطار، إلا أن ما بات واضحًا الآن أن "المسار العالمي يتجه نحو المزيد من تكرار الصراعات ذات العواقب المتصاعدة.
وقال تيمبل إن التنقل في المشهد الجيوسياسي المتطور، الغادر في بعض الأحيان، سيتطلب على الأرجح الوصول إلى أعماق المشكلات، حيث إن القضايا الجيوسياسية التي كان من الممكن تجاهلها في الماضي تؤثر الآن بشكل مباشر على سلاسل التوريد وقواعد العملاء الخاصة بالتعامل مع الشركات.
التوترات الجيوسياسية
ويرجح تمبل أن تؤدي الصراعات والتوترات الجيوسياسية المستمرة إلى انخفاض النمو بشكل أكبر، مع زيادة الضغوط التضخمية وخروجها عن سيطرة البنوك المركزية. كما يتوقع أن يمتد الصراع الروسي الأوكراني حتى عام 2024، حيث يفقد الهجوم المضاد الأوكراني زخمه بسبب اقتراب فصل الشتاء، بينما تتزايد المخاوف بشأن موثوقية التمويل الغربي والمساعدات العسكرية.
وفي حين أن التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض سيكون على الأرجح السبيل الوحيد لإنهاء الحرب، إلا أن كلا الجانبين لا يزالان بعيدين عن نقطة الاتفاق على الاستسلام لخطط الطرف الآخر، أي أن تسيطر روسيا على كامل أوكرانيا، وأن تسيطر أوكرانيا على جميع أراضيها السيادية.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، فيرى تمبل أن "الوضع الأكثر قابلية للاشتعال" يتلخص في امتداد الحرب على غزة إلى الدول المجاورة، بما في ذلك إيران، وهو ما قد يتحول إلى صراع إقليمي له عواقب عالمية وعسكرية،. ويتمثل الخطر الرئيسي لهذا النوع من التصعيد، في رأي تمبل، في تعطيل عبور إمدادات الطاقة عبر مضيق هرمز، الذي يتم شحن حوالي 20% من إمدادات النفط العالمية من خلاله.
لكن تيمبل أكد أن جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة الإسرائيلية وإيران والولايات المتحدة، لديهم جميعًا حوافز قوية لتجنب هذه النتيجة، وأن الوضع الجيوسياسي الأكثر أهمية من الناحية الاقتصادية هو التوترات متعددة الأوجه بين الصين والغرب، بشأن المنافسة وتايوان.
واعتبر تمبل أن النتيجة الواضحة للمنافسة الصناعية المباشرة بين الصين والولايات المتحدة، والمخاوف بشأن نوايا الصين في تايوان، هي التجزئة المتزايدة لسلاسل التوريد، حيث أدت التعريفات الجمركية والحواجز، إلى جانب المخاوف اللوجستية في مرحلة ما بعد كوفيد، إلى دفع الاقتصادات المتقدمة لمواصلة "دعم الأصدقاء" أو سياسات "الدعم القريب".
وقال تمبل إن هذه الخطط قد بانت أكثر صعوبة مما تصوره صناع السياسات، نظراً للجمود المحيط بسلاسل التوريد، والتحدي المتمثل في تنمية المهارات اللازمة بين العمال في أماكن جديدة. ومع ذلك، فإن التوترات الجيوسياسية تساهم في التفتت الاقتصادي الذي قد يؤدي، على المدى القصير على الأقل، إلى إحباط النمو العالمي، والمساهمة في الضغوط التضخمية.
وعلى الجانب الإيجابي، يرى تيمبل أن استمرار انخفاض التضخم يسمح لمجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي والبنوك المركزية الأخرى بالتفكير في خفض أسعار الفائدة في وقت مبكر من الربع الثاني، ما من شأنه أن يخفف من الرياح المعاكسة للنمو وينشط النفقات الرأسمالية تحسبا لانتعاش اقتصادي دوري.
الأمن وأشباه الموصلات
يتوقع مارك ناخمان، رئيس إدارة الأصول والثروات في غولدمان ساكس، وفريقه أن تحظى سلاسل توريد المعادن المهمة بالاهتمام نظرًا لأهميتها المتزايدة في التحول إلى الطاقة النظيفة، إلى جانب تعرضها المحتمل لصدمات العرض.
ونتيجة لذلك، فهو يقترح أن يتجنب المستثمرون محاولة تحديد التوقيت الأمثل لدخول السوق أو إجراء اتصالات بشأن النتائج السياسية أو الجيوسياسية الثنائية، ولكن بدلاً من ذلك يتخذون نهجًا استباقيًا لتخصيص الأصول بناءً على "أبحاث مكثفة من القاعدة إلى القمة".
وقال استراتيجيو "غولدمان ساكس" إنهم يعتقدون أن الشركات التي تتماشى بنجاح مع جهود الشركات والحكومة لتعزيز أمن سلاسل التوريد والموارد وكذلك الأمن القومي ستخرج فائزة على المدى الطويل، مضيفين أن "الشركات التي تتمتع بقوة تسعير ونماذج أعمال متينة، يتعين عليها أن تركز على تقوية ميزانياتها العمومية.