قبل ثلاثة أسابيع، وضمن إجراء روتيني غير معتاد في أغلب بلادنا العربية، أظهرت تقارير قدمتها البنوك التي يتعامل معها المحافظون الإقليميون لفروع مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" وجود تعاملات لبعضهم في سوق الأسهم والسندات تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات، في وقتٍ كانت لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة، المسؤولة عن وضع السياسة النقدية للبنك المركزي الأكبر في العالم، والتي تضم بعضاً من هؤلاء في عضويتها، تتابع ضخ تريليونات الدولارات لحماية البلاد من الدخول في أزمة مالية على غرار ما حدث في 2008 – 2009.
وجاء في تقارير البنوك المركزية أن روبرت كابلان، وإريك روزنبرغ، عضوي اللجنة ورئيسي مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي بمدينتي دالاس وبوسطن، باعا واشتريا أسهماً العام الماضي بعشرات الملايين من الدولارات.
لا توجد قوانين تمنع أعضاء مجلس إدارة البنك الفيدرالي، أو المحافظين الإقليميين للبنك المركزي الأميركي، من التعامل في بيع وشراء الأسهم والسندات، طالما أنه يتم الإفصاح عنها، لكن أغلب المتابعين اعتبروا أن المحافظَين خالفا الميثاق الأخلاقي لوظيفتهما، وعرضا نفسيهما للوقوع في فخ تضارب المصالح.
وقالت واحدة من الجهات الرقابية إنه "لم يكن يتعين على أي من العاملين في بنك الاحتياط الفيدرالي أن يبيع ويشتري أسهماً في البورصة، بينما يلقى مئات الآلاف من المواطنين حتفهم، ويفقد ملايين آخرون وظائفهم، بسبب الوباء القاتل".
بعد يومين من الإعلان عن الواقعة، قال جيرومي باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي إن القواعد التي تحكم تعاملات مسؤولي البنك في البورصة تحتاج إلى بعض المراجعة، مطالباً أعضاء مجلس الإدارة بمزيد من الالتزام بالضوابط.
وفي أول مؤتمر صحافي للبنك عقب اجتماعات مجلس إدارته ولجنة السوق الفيدرالية المفتوحة الأسبوع الماضي، كان السؤال الأول من الصحافيين لرئيس البنك المركزي الأميركي عن الخطوة التالية في التعامل مع المسؤولين بعد التقارير التي أظهرت تعاملهم بكثافة في سوق الأسهم، وكأن حالة الاقتصاد ومعدلات الفائدة ليست الأولوية الآن.
لم يتم حظر النشر في الموضوع وتم عمل تحريات واسعة من أكثر من جهة، ولم يتم إيقاف أو حتى استبعاد الصحافي الذي سأل رئيس البنك عن الموضوع في المؤتمر الصحافي، وأجاب باول بكل هدوء ووضوح لأنه يدرك أن من حق الشعب الأميركي أن يعرف الحقيقة، وأن كل مخطئ لا بد أن ينال جزاءه.
وبعد أقل من أسبوع، وتحديداً يوم الإثنين الماضي، ورغم دفع المسؤولَين بعدم وجود مخالفات قانونية في أي من العمليات التي نفذها عضوا اللجنة ورئيسا مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي بمدينتي دالاس وبوسطن في البورصة العام الماضي، وأن التعاملات كلها جرت الموافقة عليها من قبل المستشار العام للبنك الفيدرالي، رغم ذلك تقدم المحافظان بالاستقالة، أو طلبِ الإحالة إلى المعاش، تجنباً لمزيد من الضغوط، وإرضاءً للرأي العام.
في نفس الشهر الذي جرت فيه تلك الأحداث، كانت هناك قصة أخرى حزينة، بطلاها شاب أميركي وخطيبته، سافرا معاً لقضاء بعض الوقت في عدد من الحدائق العامة في ولايات الغرب الأميركي، ودأبا على الاتصال بأهلهما وأصدقائهما، وإرسال الصور والفيديوهات القصيرة التي تظهر استمتاعهما بالرحلة. لكن بعد عدة أيام، عاد الشاب، وحده، بسيارة الفتاة، إلى منزله في ولاية فلوريدا، بينما توقفت اتصالات الفتاة بأهلها.
بعد إبلاغ الأهل باختفاء ابنتهم، وتأكيد شهود وجود خلافات أدت لبعض العنف بين الخطيبين، وأن الشرطة استُدعيت لهم في مناسبة واحدة على الأقل لفض الخلافات، توجهت الشرطة والمباحث الفيدرالية إلى منزل الشاب لسؤاله عنها، إلا أنه رفض الإجابة عن أي سؤال، فما كان من الشرطة إلا أن أخذت سيارة الفتاة، وأعادتها لأسرتها، موضحةً أن الخطيب لم يبد أي تعاون معهم.
لم تقبض عليه الشرطة، ولم تجبره على البقاء بالمنزل، ولم توجه إليه أية اتهامات، ولم يتم جره إلى القسم لاستجوابه أو القيام بأي نوع من الضغوط لدفعه إلى التحدث.
وبعد يومين، ضاق الشاب بتكرار حضور المباحث لمنزله، وتوافد عشرات الصحافيين عليه، فقرر مغادرة المنزل، وخرج بالفعل دون أن يشعر به أحد، وحتى الآن لم يتمكن أحد من العثور عليه، ولم توجه إليه الشرطة اتهامات، حيث قال مسؤول فيها إنه ليس من السهل توجيه اتهام بهذا الحجم دون وجود أدلة، وذلك رغم العثور على جثة الفتاة والتأكد من أنها جريمة قتل.
يبدو للوهلة الأولى أن الحادثين بعيدان كل البعد عن بعضهما، وأنه لا يوجد ما يربط بينهما، لكن قليلا من التدقيق يظهر أن ما يجمعهما هو احترام الدولة، مسؤولين حكوميين وجهات قضائية وشرطة، للمواطن العادي وللرأي العام، دون أن تكون له صلة بأصحاب نفوذ، ودون مهادنة أو حماية لأي مسؤول يخلّ بمسؤوليات وظيفته، وإن لم يخرج عن القانون.
نفس الاحترام للمواطن يمكنك ملاحظته في مستشفيات الولايات المتحدة، وفي توفر التأمين الصحي لكل الطبقات، وبتكلفة تتناسب مع مستوى الدخل، وتم تخفيض الحكوميّ منها للربع تقريباً لفئات الدخل الأدنى هذا العام لتخفيف العبء عليهم بعد عام الجائحة.
ونفس الاحترام تراه في المدارس الحكومية المنتشرة بطول البلاد وعرضها، والتي يُقبل فيها التلاميذ بغض النظر عن جنسياتهم، أو نوعية الفيزا التي حصلوا عليها، أو حتى نوعية الإقامة وكونها شرعية أم غير شرعية.
يُقبل الطلاب، بدون أي مصاريف ولا حتى قيمة الورق الذي يتم التقديم عليه، ويتم التأمين الصحي عليهم أيضاً بالمجان، وترسل للطبقات منخفضة الدخل منهم كوبونات للحصول على وجبات مجانية في المدرسة.
وبعيداً عن جودة التعليم المُقدَّم، وتوفر الإمكانات التكنولوجية الحديثة في أبعد قرية في أي ولاية، لا تخلو مدرسة من ملاعب لتسهيل ممارسة الرياضة للتلاميذ، وتتاح لكل منهم فرصة اختيار الرياضة التي يهواها للانضمام إليها، كما تفتح أبواب الملاعب بالمجان لأبناء الحي خلال عطلة نهاية الأسبوع.
احترام المواطن فرض على الحكومات في كل البلدان، وليس منة يُمن بها عليهم، وبهذا فقط تستقر الأوطان، ويأتي الاستثمار الأجنبي الحقيقي لا المُستَغِل، وينتعش اقتصاد البلاد.