عن الأزمة الاقتصادية وحتمية الاصلاح السياسي في مصر

07 سبتمبر 2022
الغلاء يعصف بالأسرة المصرية/فرانس برس
+ الخط -

هل يمكن حل الأزمة الاقتصادية والمالية العنيفة التي تمر بها مصر حالياً بعيداً عن إجراء إصلاح شامل للملف السياسي وعمل إصلاحات حقيقية على مستوى الدستور والخريطة السياسية والانتخابات وتركيبة البرلمان ودعم الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والإفراج عن المعتقلين وغيرها؟

الإجابة قولا واحدا: "لا"، فلا يمكن الفصل بين الملفين، الإصلاح الاقتصادي والسياسي، ومن يقول غير ذلك ويزعم أن الأمرين غير مترابطين إما ينظر تحت قدميه ولا يرى الأمر بصورة كلية، أو ليست لديه معرفة بالخريطة الكاملة للأوضاع الحالية في مصر.

أو ربما تتبنى هذا الخطاب جهة أو شخص مغرض يريد إبقاء الحال على ما هو عليه والذي أدى بنا إلى مرور البلاد بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخها الحديث، حيث ديون خارجية وداخلية لا قبل لنا بها، وحيث تهديد حقيقي، ليس فقط لعملة وموازنة وإيرادات ومالية واقتصاد الدولة والنفقات العامة، وليس فقط تهديد يتعلق بالغلاء الفاحش والفقر والبطالة ومعاناة المواطن وأحواله المعيشية التي ساءت كثيراً، بل تهديد مباشر للأمن القومي الاقتصادي للدولة، وربما الأمن القومي بشكل عام.

الإصلاح الاقتصادي يبدأ من المصالحة المجتمعية وإجراء إصلاح سياسي حقيقي وليس كرتونياً أو عن طريق حوارات مصطنعة

وعلى مدى سنوات قلت في أكثر من مناسبة إن الإصلاح الاقتصادي يبدأ من المصالحة المجتمعية وإجراء إصلاح سياسي حقيقي وليس كرتونياً أو عن طريق حوارات مصطنعة تتم دعوة المرضي عنهم سياسياً لحضورها وإبداء الرأي في بعض القضايا الهامشية وغير المحورية، واستبعاد قضايا جوهرية من دائرة الحوار، مثل مستقبل مياه النيل ومخاطر سد النهضة الإثيوبي على الدولة ومصرية تيران وصنافير والانتخابات الرئاسية والمحلية وملف معتقلي الرأي وتبديد المال العام وتنمية سيناء وسرقة إسرائيل للغاز وغيرها من القضايا المصيرية التي تهم حاضر ومستقبل مصر ومواطنيها.

في رأيي فإن حل الأزمة الاقتصادية يتطلب إجراء مصالحة مجتمعية على الفور ودون تأخير أو تلكؤ، مصالحة بين كل القوى السياسية والمدنية مع استبعاد الذين تلطخت أيديهم بدماء المصريين أو مارسوا العنف والإرهاب الحقيقي وليس المفتعل.

فالمصالحة يعقبها تدفق مزيد من الأموال من المصريين العاملين في الخارج وعودة مليارات الدولارات التي خرجت في السنوات الأخيرة خوفاً من المصادرة أو عدم الاستقرار.

تعني أيضا عودة الاستثمارات الأجنبية الهاربة بعد أن يدرك المستثمر الخارجي أن هناك استقراراً سياسياً حقيقياً في الدولة، وليس استقراراً هشاً أو قائماً على العصا الغليظة فقط، كما تعني المصالحة تعاون جميع أفراد المجتمع في تجاوز الأزمة المالية، فإذا ما تمت مشاركة المواطن في صنع القرار السياسي والاقتصادي فإنه يتحمل أي قرار تقشفي حتى لو كان صعباً ويمس قدرته الشرائية.

حل الأزمة الاقتصادية يتطلب إجراء مصالحة مجتمعية على الفور ودون تأخير أو تلكؤ، مصالحة بين كل القوى السياسية والمدنية

وتعني أيضاً انتعاشاً في إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، خاصة من قطاعات مثل السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين، والابتعاد عن مخاطر الأموال الساخنة والاقتراض الخارجي الكثيف، لأن العالم يدرك في هذه الحالة أن الدولة لا تعرف ما يسمى بالانقسام المجتمعي أو الغموض السياسي والذي يهدد أي اقتصاد.

حل أزمة مصر الاقتصادية يتطلب أيضاً إصلاحاً برلمانياً، بحيث يتم انتخاب برلمان حقيقي يعبر عن كل المصريين، برلمان يساعد الحكومة ويحاسبها في آن واحد، يحافظ على المال العام ويرشد الإنفاق الحكومي، يغلق ماسورة الفساد التي تتسع يوماً بعد يوم، يشرع القوانين والتشريعات التي تقاوم الفساد والتهرب الضريبي والاحتكارات وسيطرة رأس المال على الحكم.

برلمان يراقب أداء الحكومة ويحافظ على أصول الدولة، يراقب أوجه صرف القروض الخارجية وإيرادات الدولة، يرفض أي إملاءات خارجية من الدائنين الدوليين، يعمل لصالح الدولة والناخب ويخفف ظروفه المعيشية الصعبة.

موقف
التحديثات الحية

لا احتواء للأزمة الاقتصادية في ظل سيطرة الصوت الواحد على الإعلام، وتحميل العاملين في الإعلام المواطن لا الحكومة مسؤولية أزمات الغلاء والتضخم وضخامة القروض الخارجية، ومعايرة هؤلاء المواطن بأنه سبب أزمات البطالة والفقر والعشوائيات، لأنه "بيخلف كثير" ولا يحدد النسل.

ولا حل لتلك الأزمة في ظل إعلام الصوت الواحد الذي يبرر كل قرار يصدر عن السلطة الحاكمة حتى لو كان معيبا وغير مدروس، بل وخطيراً ويمس تراب وحدود الدولة واستقلالية القرار الوطني.

الإعلام في ظل الأنظمة الحرة والديمقراطيات الحقة يسأل ويراقب، ويكشف أوجه الفساد ويسلط الضوء على الأخطاء، يسأل السلطة الحاكمة عن مصير عشرات المليارات من الدولارات التي تم اقتراضها من الخارج خلال السنوات الأخيرة، عن أوجه إنفاق أموال الدولة، ومنها صندوق تحيا مصر والصناديق الخاصة.

لا احتواء للأزمة الاقتصادية في ظل سيطرة الصوت الواحد على الإعلام، وتحميل العاملين في الإعلام المواطن

برلمان يسأل عن جيش المستشارين ومدى حاجة الجهاز الإداري للدولة إليهم، وخاصة أن رواتبهم تتجاوز مليارات الجنيهات، وبعضهم لا يمتكل الخبرة الكافية. عن سر سطو الحكومة على ما تبقى في جيب المواطن عن طريق زيادات قياسية في الضرائب والرسوم، عن سعر معايرة الحكومة المواطن بفقره، عن أسباب تجاهل تطوير القطاعات الخدمية وفي مقدمتها الصحة والتعليم والبحث العلمي.

ليس دور الإعلام تجميل الصورة ونفاق السلطة الحاكمة وتحميل الأزمة الاقتصادية لعامل واحد هو حرب أوكرانيا، نعم الحرب رفعت أسعار الوقود من نفط وغاز وبنزين وسولار، كما رفعت أسعار الحبوب، وكانت للحرب تأثيرات على قطاع السياحة المصري.

موقف
التحديثات الحية

لكن في المقابل فإن للأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها مصر حالياً أسباباً أخرى بعيدة عن الحرب الدائرة على بعد آلاف الكيلومترات من الأراضي المصرية، منها الإفراط الشديد في الاقتراض الخارجي، وإنفاق مليارات الدولارات على مشروعات لا تمثل أولوية للاقتصاد والمواطن، ولخبطة الأولويات لدى صانع القرار، والتركز في اتخاذ القرار، وتجاهل دراسات الجدوى وغيرها من الأسباب الموضوعية التي يتجاهل ذكرها الإعلام المصري.

حل الأزمة الاقتصادية يتطلب شفافية من قبل أجهزة الدولة، شفافية في كل شيء، بداية من الكشف عن أوجه الصرف على المشروعات القومية الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة والطرق والكباري، ونهاية بالشروط المذلة التي عرضتها الحكومة على صندوق النقد مقابل الحصول على قرض جديد، ومرورا بدور الجهاز المركزي للمحاسبات والأجهزة الرقابية في الرقابة على مؤسسات الدولة والحفاظ على المال العام، ومصير الوفر الذي تحقق في دعم الوقود خلال جائحة كورونا، وحقيقة الاكتشافات النفطية والغازية الضخمة في البحر المتوسط والصحراء الغربية.

للأزمة الاقتصادية أسباباً أخرى بعيدة عن حرب أوكرانيا، منها الإفراط الشديد في الاقتراض، وإنفاق مليارات الدولارات على مشروعات لا تمثل أولوية للاقتصاد والمواطن

حل الأزمة الاقتصادية يتطلب إنجاز ملف الانتخابات المحلية المعطلة منذ سنوات طويلة، عودة الروح للأحزاب السياسية والنقابات المهنية لتؤدي دورها الوطني الذي قامت به في سنوات سابقة، كما يتطلب عودة مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان، وسماع السلطة الحاكمة لصوت المواطن واحترامه لا الدوس عليه بالأحذية والدبابات.

فعندما يشعر المواطن بأنه هو السيد، وأن صوته يتم احترامه وصونه، هنا سيتقبل أي قرار حكومي حتى ولو كان قاسياً، لأنه يدرك في النهاية أن لديه سلطة وحكومة تعمل لصالحه ولصالح الدولة، سلطة تراعي الصالح العام وتحافظ على أصول الدولة وتعمل بجدية على توفير فرص عمل وخفض الأسعار ومواجهة الغلاء.

موقف
التحديثات الحية

ببساطة، ما لم نبدأ في إجراء إصلاح سياسي حقيقي وصادق ويضم الجميع بلا إقصاء أو استثناء لأحد، فإنه لا حل للأزمة الاقتصادية والمالية القائمة حتى لو تم بيع نصف أصول الدولة والاستنجاد بقروض ومليارات واستثمارات دول الخليج واغتراف مليارات جديدة من صندوق النقد والمؤسسات الدولية، ورهن قناة السويس والأهرامات والسد العالي لصالح الدائنين الدوليين.

والمناكفات والمشاحنات وعمل كل طرف على إزاحة الآخر من المشهد العام ليس في صالح الوطن ومستقبله على الإطلاق. والقطيعة الأبدية بين أبناء البلد الواحد تهدد الاقتصاد وتؤزمه وتعقد المشهد المعيشي للمواطن، واستهداف كل طرف للآخر يأكل من رصيد الدولة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

المساهمون