عن أسباب أزمة الأرز في مصر

26 فبراير 2024
المواطن يعاني من ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية (فرانس برس)
+ الخط -

يعاني المواطن المصري أزمة كبيرة في أسعار الأرز وشحه في الأسواق. والنتيجة ارتفاع أسعار الأرز الأبيض للمستهلك من 18 جنيهاً للكيلوغرام إلى ما بين 35 جنيهاً إلى 45 جنيهاً للكيلوغرام، حسب نوع الحبة ونسبة الكسر والمنطقة. كما ارتفعت أسعار أرز الشعير إلى ما بين 18.5 ألف جنيه للطن من الحبة الرفيعة، و20.5 ألف جنيه للطن من الحبة العريضة، ما يقارب ضعف الأسعار في الشهر نفسه من العام الماضي.

وبرر وزير التموين، علي المصيلحي، الأزمة بمجموعة من الأسباب والحجج الخيالية، منها ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه، وقال إننا لسنا بمعزل عما يحدث في العالم من تغيرات سياسية ومناخية أثرت بشكل رئيسي بالأسعار، وفي مقدمتها جائحة كورونا، وأسعار الطاقة التي أدت إلى كساد ونقص في المعروض، وما كاد العالم يخرج ويتعافى من جائحة كورونا إلا وجاءت الحرب الروسية - الأوكرانية، وتبعتها الحرب في السودان.

ومنها، على حد قوله: "العدوان الغاشم من إسرائيل على فلسطين، واعتداءات الحوثيين على السفن بالبحر الأحمر وباب المندب التي أدت إلى ارتفاع أسعار التكلفة والتأمين للناقلات، وأزمة تغير المناخ العالمي، فدولة الهند وهي أكبر مصدر للأرز عالمياً أعلنت وقف تصدير الأرز هذا العام، ما أدى إلى ارتفاع أسعاره عالمياً".

فما علاقة الدولار وكورونا والهند وإسرائيل والحوثيين بالأرز في مصر؟! وقد كان ينتج محلياً في مصر قبل سنة 2014 بكميات كبيرة، ويحقق الاكتفاء الذاتي، ويفيض جزء عن الاستهلاك المحلي يصل إلى مليون طن في بعض السنوات، وكان يوجه للتصدير إلى الأسواق المتعطشة للأرز المصري، المروي بماء النيل، في ليبيا والخليج وتركيا، ويحقق دخلاً للموازنة العامة للدولة يزيد عن مليار دولار.

ذلك أن الحكومة، قبل ظهور كورونا والحرب في أوكرانيا والعدوان على غزة، كانت تتهم جشع التجار وأصحاب المضارب باحتكار الأرز. وأصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 4148 لسنة 2022، ونصت المادة الأولى منه على اعتبار سلعة الأرز من المنتجات الاستراتيجية، ويلتزم حائزو سلعة الأرز لغير الاستعمال الشخصي، من المنتجين والموردين والموزعين والبائعين ومن في حكمهم، بالمبادرة فوراً إلى إخطار مديريات التموين والتجارة الداخلية المختصة على مستوى الجمهورية بنوعية وكميات الأرز المخزنة لديهم. وكأن الأرز أصبح دواء مدرجاً في جدول المخدرات.

نصت المادة الثانية من القرار على معاقبة كل من يمتنع عن بيع الأرز من الفئات السابقة بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه وحتى مليوني جنيه، وفي جميع الأحوال تقضي المحكمة بمصادرة الأرز. ولو طبقت عقوبة السجن الواردة في هذا القرار على قيادات وزارة التموين الذين ألقت الرقابة الإدارية القبض عليهم متلبسين بالرشوة في ديوان عام الوزارة، لأغلقت الوزارة أبوابها، ولنقلت مقرها إلى سجن طرة.

أهمية الأرز المصري

الأرز في مصر هو بديل رغيف الخبز ورديفه، بمعنى تابعه، على موائد المصريين، الفقراء والأغنياء. وهو ثاني مكونات الأمن الغذائي المصري بعد القمح. فهو الطبق الرئيسي في وجبة الغداء، كما أن الخبز هو عمدة وجبة الإفطار، والعشاء الذي حصر وقصر على الأغنياء. وهو بديل طبق المكرونة في الغداء، غالية الثمن والمصنوعة من القمح المستورد، ولرغيف الخبز الحر، الذي تخطى سعره خمسة جنيهات، والخبز التمويني رديء الصناعة الذي لا يرى إلا بالمجهر المكبر.

وهو محصول ثنائي الغرض، غذائي وصناعي، تقوم عليه صناعة عملاقة هي ضرب الأرز، تتكون من 7‏ شركات مملوكة للدولة، كان يعمل فيها‏ 25‏ ألف عامل. ومئات من مضارب القطاع الخاص الأهلية والتي كانت توفر آلافاً من فرص العمل في النقل والضرب والتعبئة والتوزيع. وهو محصول الحبوب الوحيد الذي حققت مصر منه الاكتفاء الذاتي بعد ثورة يوليو 1952، وتوفر فائض للتصدير بلغ 48% من جملة الإنتاج في عام 2011، بقيمة مليار دولار.

ومن المهم أن نكشف عن الأسباب الحقيقية لأزمة الأرز، ندرته وغلاء أسعاره، المحتدمة في مصر منذ سنة 2014. وذلك لعلاج الأزمة من جذورها، وعودة الأرز لموائد المصريين بعد حرمان 10 سنوات، وللحفاظ على صناعة ضرب الأرز التي تحتضر وقاربت على التوقف.

محاربة زراعة الأرز من دون مبرر

أهم أسباب أزمة الأرز، هي محاربة زراعته دون مبرر حقيقي. وفي تصريح مفاجئ وغريب، وفي ظل وفرة في الإنتاج بعد إلغاء الرئيس السابق محمد مرسي غرامة مخالفات زراعة الأرز دون ترخيص، وبعد ثلاثة شهور فقط من انقلاب يوليو 2013، قال وزير الموارد المائية والري، محمد عبد المطلب "إننا قد نلجأ إلى التوقف عن زراعة الأرز مستقبلاً، لأن محصول الأرز عبارة عن مياه والفدان الواحد يستهلك 6 آلاف متر مكعب، وأن قرار رفع الغرامات عن المخالفين هذا العام سيادي وليس قرار وزير الري".

وهي ادعاءات غير علمية، تكشف عن نية مبيتة وهدف استراتيجي لمحاربة زراعة الأرز. ذلك أن علماء مركز بحوث الأرز، التابع لمركز البحوث الزراعية تمكنوا من استنباط أصناف لا يزيد استهلاكها للمياه عن 4 آلاف متر مكعب فقط، ويبلغ إنتاجها 5 أطنان للفدان، وتمكث في الأرض 120 يوماً فقط.

وبمقارنة بسيطة مع محصول القمح، نجد أن الأخير يستهلك 4 آلاف متر مكعب من المياه، ويبلغ إنتاجه 2.5 طن للفدان، ويمكث في الأرض 180 يوماً. أي إن إنتاج كيلوغرام واحد من الأرز يحتاج إلى 0.9 متر مكعب من المياه. بينما يحتاج إنتاج كيلوغرام من القمح إلى 1.6 متر مكعب من المياه. ما يعني أن الأرز أقل استهلاكاً للمياه من القمح، عكس ما يشيعه المسؤولون المصريون.

وفي السنة نفسها، 2014، أصدر وزيرا الري والزراعة قراراً بتحديد المساحات المنزرعة بمحصول الأرز بمليون و76 ألف فدان فقط، بدلاً من 2 مليون فدان في سنة 2013، بحجة الحد من هدر مياه الري، وأعلن وزير الري عن تطبيق الغرامات على زراعة الأرز المخالفة التي أسقطها مرسي من دون تهاون، وقرر تسيير حملات مشتركة مع الزراعة والداخلية لإزالة مشاتل الأرز المخالفة، حرقاً بالمبيدات أو إتلافاً بالجرارات. وكانت النتيجة تراجع الإنتاج وارتفاع الأسعار.

وفي 2016، أوضح وزير الري، حسام مغازي، أنّ الحكومة بدأت خطة لمواجهة آثار سد النهضة الإثيوبي على مصر، بتخفيض المساحات المنزرعة بالأرز إلى 724 ألف فدان، بدلاً من 1.1 مليون فدان.

وفي يناير/ كانون الثاني 2017، اعترف مغازي، بعد أن ترك الوزارة وتحرر من سلطة السلطة، بأن تقليل مساحات الأرز وحرمان بعض المحافظات من زراعته سينتج عنه مشاكل اجتماعية واقتصادية، وهو ما حدث بعد ذلك. حيث تحولت مصر من الاكتفاء الذاتي من الأرز وتصدير الفائض، إلى العجز والاستيراد من الصين والهند، واستمرت الأزمة حتى الآن.

وفي سنة 2018، استحدثت الحكومة تعديلات على قانون الزراعة المصري المعمول به منذ سنة 1966 تقضي بعقاب مزارعي الأرز بالحبس حتى 6 أشهر، وبغرامة مالية حتى 20 ألف جنيه، لمن يزرع الأرز في مناطق غير مصرح بها، بعد أن كانت تقتصر العقوبة على غرامة مالية لا تزيد عن 50 جنيهاً. واختفى الأرز من الأسواق وغاب عن البطاقات التموينية في محافظات الصعيد، البعيدة عن الإعلام، ثم رفع تماماً من المنظومة.

تداعيات محاربة زراعة الأرز

جاء في تقرير معهد بحوث الاقتصاد الزراعي، التابع لمركز البحوث الزراعية والصادر في إبريل/نيسان سنة 2020، بعنوان أثر خفض مساحة الأرز على دخول المزارعين في مصر، أن الحكومة خفضت مساحة الأرز من 1.5 مليون فدان في سنة 2012، إلى نحو 859 ألف فدان في سنة 2018، أي إنها منعت زراعة 613 ألف فدان، ما يمثل انخفاضاً بنسبة 41%، وذلك بتشديد الغرامة والحكم بسجن المخالفين.

ونتيجة محاربة زراعة المحصول، وعدم توفير التقاوي والأسمدة، انخفضت الإنتاجية من 4 أطنان للفدان سنة 2013، إلى 3.6 أطنان للفدان. وأثبت التقرير أن مزارع الأرز خسرت نحو 5 آلاف جنيه لكل فدان، بسبب حرمانها من زراعة الأرز وتحولها إلى زراعة محصول آخر، ما يعد إفقاراً متعمداً للفلاحين.

ونتيجة لتراجع الإنتاج وزيادة الأسعار، انخفض متوسط استهلاك المواطن من الأرز من حوالي 44 كيلوغراماً في 2012، إلى نحو 32 كيلوغراماً في سنة 2018، بمعدل انخفاض 27% عن بداية الفترة.

وأثبت تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن متوسط استهلاك المواطن من الأرز انخفض في سنة 2019 إلى 26.7 كيلوغراماً للفرد في السنة، وارتفع في سنة 2023 إلى 29.6 كيلوغراماً للفرد في السنة، لكنه ظل منخفضاً عن المتاح للاستهلاك في سنة 2012 بنسبة 33% تقريباً. ما يعد تهديداً للأمن القومي، وتبديداً للأمن الغذائي يصل إلى حد التجويع، وإن لم يجرؤ أحد على التصريح به.

وليس سراً أن المستفيد من غياب الأرز المصري هي الولايات المتحدة، باعتبارها المنافس الأكبر للأرز المصري عريض الحبة، وكانت مصر تستحوذ على 20% من حجم التجارة العالمية للأرز، حتى أخرجت بالسياسات الحالية من السوق العالمي.

وفي يوم 5 إبريل 2017، زارت مصر بعثة من وزارة الزراعة الأميركية، وقال ممثل رابطة منتجي الأرز الأميركيين، غريغ يلدنغ، إن مزارعي الأرز الأميركيين استفادوا من غياب الأرز المصري عن أسواق الشرق الأوسط، وإن الأرز الأميركي حل محله في أسواق دول الخليج وتركيا والأردن.

الإلغاء من منظومة التموين

السبب الرئيس الثاني لأزمة الأرز في مصر، هو رفعه من منظومة البطاقات التموينية التي كانت توفر 80% من احتياجات المواطن من الأرز. وصرح وزير التموين في مؤتمر صحافي في أغسطس/ آب الماضي، بأنه تم رفع حصة الأرز من قائمة السلع التي تشملها البطاقة التموينية، وقال باللهجة العامية: "مفيش رز عالتموين، ليس لعدم وجود أرز، لكن نظراً لأن الخمسين جنيه تغطي كيلو الزيت وكيلو السكر، وبالتالي أنزل الأرز يتبهدل؟!".

الوزير هنا لا يمانع من حرمان المواطن وأطفاله حرصاً على كرامة الأرز، مثل الطبيب الذي ضحى بحياة الأم حرصاً على حياة الزوج.

موقف
التحديثات الحية

عقب أزمة الغذاء العالمية في 2007، شهد البنك الدولي بأن منظومة الدعم التمويني العيني في مصر رفعت 22% من المصريين فوق خط الفقر، ومكنت 8% من عدم السقوط في براثن الفقر المدقع، فقر الغذاء.

وحتى منتصف 2013، كانت منظومة البطاقات التموينية توفر نسبة مهمة من السلع الأساسية، الأرز والسكر وزيت الطعام، لنحو 67 مليون مواطن، من إجمالي 84 مليون مواطن، ما يمثل 80% من عدد السكان.

وكانت توفر 2 كيلوغرام شهرياً من الأرز للمواطن بسعر جنيه ونصف فقط للكيلوغرام، بحيث تحصل الأسرة المكونة من خمسة أفراد على 10 كيلوغرامات، وهي كمية كافية لاحتياجات الأسرة طوال الشهر، ولا تزيد كلفتها عن 15 جنيهاً فقط، بالإضافة لـ2 كيلوغرام سكر بسعر 1.25 جنيه للكيلوغرام، و1.5 كيلوغرام زيت بسعر 3 جنيهات للكيلوغرام، ثم يدفع الفرد 10 جنيهات فقط مقابل هذه الكمية من السلع.

تحويل الدعم السلعي إلى نقدي، 50 جنيهاً مقطوعة، أدى لارتفاع سعر الأرز وبقية السلع. يقول وزير التموين "حق المواطن هو 50 جنيهاً وليس الزيت أو السكر أو الأرز".

وكانت النتيجة أن سعر الأرز زاد من 1.5 جنيه للكيلوغرام في سنة 2013، إلى 12.6 جنيهاً للكيلوغرام قبل أن يرفع من منظومة التموين ثم 35 جنيهاً للكيلوغرام.

المساهمون