عادة ما يكره صندوق النقد الدولي النظم الديمقراطية المنتخبة، وقد لا يفضل التعامل مع دول لديها برلمانات وأجهزة رقابية وأحزاب وقوى سياسية قوية وصحافة مستقلة ومجتمع مدني حيوي ونشط، وغالبا ما يميل في تعامله إلى الحكومات والأنظمة المستبدة والقمعية، وفي المقابل يضيق الخناق على النظم المنتخبة، بل يكرهها ويجد صعوبة في التعامل معها وفرض شروطه.
الصندوق ينطلق من موقفه، غير المعلن طبعاً، من عدة أسباب، أبرزها أن الحكومات المستبدة قادرة على تنفيذ شروطه وإملاءاته وروشتته السامة، وفرضها على الشعب بالقوة والقبضة الحديدية، وكبت أي أصوات معارضة لأي اتفاقات مع هذه المؤسسة المالية التي أغرقت العديد من دول العالم في وحل القروض والتعثر والتقشف والغلاء، بل والتخلف والتبعية.
صندوق النقد يميل في تعامله إلى الحكومات والأنظمة المستبدة والقمعية، ويضيق الخناق على النظم المنتخبة، بل يكرهها
ومن خلال برلمانات ضعيفة ومسيطر عليها ومهندسة النتائج تستطيع الأنظمة الحاكمة المستبدة تمرير أي اتفاقات مع الصندوق حتى لو مست بالكرامة الوطنية والاستقلال الوطني، وتدخلت في أدق تفاصيل متعلقة بمخصصات الموازنة العامة وإيرادات الدولة بما فيها الأموال الموجهة للتعليم والصحة والرواتب والأجور.
بالطبع فإن صندوق النقد يسعد عندما تطبق الدول المقترضة برامجه كاملة من دون نقاش جدي أو مقاومة ومعارضة حقيقية لشروطه المجحفة بحق المواطن والدولة.
ويسعد أكثر عندما يتم تمرير قرارات خطيرة من قبل الحكومات مثل تعويم العملات الوطنية، وزيادة الضرائب والرسوم، وإلغاء الدعم الحكومي المخصص للوقود والسلع الغذائية من دون أدنى اعتراض أو نقد، حتى من قبل المواطن الذي سيتحمل وحده كلفة هذه القرارات الخطرة من قوته وقوت أولاده وأحفاده، علما بأن الصندوق يفرض هذه الشروط مقابل الموافقة على قروضه الضخمة.
وتكون سعادة الصندوق أكبر عندما يقلب الإعلام لدى الدول المدينة الحقائق، ويصور إخفاقات برامج المؤسسة المالية التي يتم تنفيذها من قبل الحكومات المقترضة وفشلها على أنها إنجاز تاريخي.
وتصور الصحافة القروض الخارجية المتدفقة على الدولة من كل حدب وصوب وبأسعار فائدة مبالغ فيها على أنها ثقة في الاقتصاد القومي والمؤشرات الاقتصادية التي تحققت بفضل برامج الصندوق، أو تحول تلك الصحف عجز الموازنة العامة إلى فائض أولي، والقروض إلى استثمار وتمويل.
في المقابل، فإن صندوق النقد الدولي قد يجد صعوبة في التعامل مع النظم الديمقراطية المنتخبة، فهذه النظم لا تستطيع تمرير إملاءاته وروشتته السامة بسهولة ومن دون نقاش مجتمعي واسع وموافقة السلطة التشريعية.
صندوق النقد لا تهمه كثيراً معرفة مصير قروضه المليارية الضخمة، وإن كانت توجه لبناء مصانع وقطاع إنتاجي قوي يفيد المواطن والاقتصاد، أو تبني سجوناً
ولا تستطيع الدول المنتخبة قهر المواطن وتهديده بالسجن في حال الخروج إلى الشارع رفضا لأي اتفاق مع الصندوق، ولديها برلمانات منتخبة تستطيع رفض أي شروط تحاول المؤسسة المالية الدولية فرضها، ولديها أيضاً أجهزة تراقب كيفية إنفاق قروض الصندوق والتأكد من توجيهها للغرض الصحيح.
صندوق النقد الدولي قد لا تهمه كثيراً معرفة مصير قروضه المليارية الضخمة، وإن كانت توجه لبناء مصانع وقطاع إنتاجي وتصديري وزراعي قوي يفيد المواطن والاقتصاد، أو تبني الدول المقترضة سجوناً ومراكز اعتقال لاحتجاز أصحاب الرأي والصحافيين والنشطاء السياسيين.
ولا يهمه إن كان جزء من هذه الأموال قد يتم توجيهه لإقامة قصور ومبان حكومية فخمة ومقار للوزرات والاجهزة الحكومية، أو تم توجيهه لمصلحة المواطن وتحسين مستواه المعيشي وتوفير السلع الرئيسية بسعر مناسب.
ولا يهمه صرخات المواطن من الضرائب والرسوم الحكومية العالية، ومن قفزات الأسعار وخفض دعم السلع الرئيسية بما فيها الغذائية، وطحن المواطن.
كل ما يهمه هو إشادة حكومات الدول المقترضة وإعلامها بدور الصندوق في حماية الطبقات الفقيرة وتوفير برامج الحماية الاجتماعية، رغم أن أمواله أبعد ما تكون عن هذه الفئات الأكثر احتياجا خاصة في القرى والريف والمناطق العشوائية.
ببساطة، كل ما يهم صندوق النقد الدولي هو تزيين واجهات الدول من الخارج بالأضواء الصاخبة وشهادات الإشادة والنمو المرتفع وتحقيق فائض أولي في الموازنة العامة للدولة، ونشر تقارير وأخبار دعائية وتسويقية عنه في الصحف ووسائل الإعلام.
أما ما يحدث من فوضى داخل الدول من قفزات أسعار، وجوع وطوابير غذاء ووقود، وتهاوي العملة والطبقة الوسطى معاُ، وتدحرج الفقراء والمستورين نحو الفقر المدقع، وانهيار مالي واقتصادي كما يحدث حاليا في لبنان وتونس والسودان، فهذا أمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، كما لا يعنيه مكافحة الفساد المستشري والاحتكارات الواسعة وغيرها من الأنشطة الضارة بالاقتصاد والأسواق والمواطن.
الحلول عند صندوق النقد سهلة وسريعة للدول التي تغرق في ديونه والسيناريو واحد، تتعثر الدولة في سداد الديون، فتطلب المزيد من القروض حتى تغرق
وعندما تقع الرأس في الفأس فالحلول عند صندوق النقد سهلة وسريعة للدول التي تغرق في الديون والسيناريو واحد، تتعثر الدولة في سداد الديون المستحقة للمؤسسات الدولية والدائنين، فتطلب المزيد من القروض حتى تغرق.
أحدث مثال على ذلك الأرجنتين التي اقترضت قبل أيام 44 مليار دولار، وفي عام 2018 اقترضت أكبر قرض في تاريخ الصندوق بقيمة 53 مليار دولار، ورغم هذه القروض الضخمة والسريعة تغرق الدولة اللاتينية في وحل الفوضى وتتهاوى عملتها، البيزو، يوما بعد يوم، ولا أمل في الخروج من هذا النفق المظلم. ولا تزال الدول تتهافت على الصندوق في إصرار غريب على الغرق في وحل الديون والازمات المعيشية.