تراجُع قيمة الجنيه المصري، أمام الدولار والعملات الصعبة، أصبح ميزة. هكذا قال نجوم فضائيات الإعلام الرسمي والمدار أمنيا، في يوم كان عبوسا قمطريرا. فما أشبه الليلة بالبارحة، عندما انهار سعر الجنيه في نهاية عام 2016 وفقد نحو 68% من قيمته، في ضربة واحدة.
خرجت نفس الشخصيات، تبشر الناس بأن الخير قادم، لأن تخفيض قيمة الجنيه، ستدفع العالم إلى شراء السلع والخدمات المصرية. فلا شاف الناس خيرا، ولا أقبل العالم على سلعنا، بالقدر الذي يحقق أي قول، من تلك الدعاية الزائفة. فمصر ببساطة ليست لديها الكثير كي تصدره للعالم، سوى بعض المنتجات الأولية من النفط والرمال والأسمدة، والفواكه بينما تستورد ما يزيد عن 80% من احتياجاتها من القمح، و90% من الزيوت واللحوم وكثير من كل شيء له علاقة بالصناعة أو الزراعة أو التعليم، حتى المباني الفاخرة.
تراجع الجنيه، حدث فجأة، هذا الأسبوع، رغم وجود توقعات بشأنه من كبريات بنوك الاستثمار العالمية والشركات المالية، إلا أن أقصى انخفاض قدر له، لم يزد عن 15 في المائة. في يوم واحد خسر الجنيه الاثنين الماضي، نحو 16% من قيمته، واستكمل في اليوم التالي 2% أخرى. وقف أراجوزات الإعلام، ليبشروا الناس من جديد، بأن حكماء البنك المركزي، أرادوا ذلك حتى يواجهوا التدهور الاقتصادي في العالم، بقوة ويقظة قبل أن تقع الكارثة.
خرجت الصحف المصرية جميعها، خاصة وحزبية ومن قبلها الحكومية، بنصوص موحدة، تزف البشرى، بزيادة الرواتب للعاملين بالدولة والمعاشات، وإنذارات بالويل والثبور لكل من يخالف تعليمات الحكومة وأسعارها ويعترض على حكمتها الرشيدة!
نوقن أن الإعلام مرآة المجتمع، ولكن أي مجتمع؟! فالإعلام الحر لا يعيش إلا في مجتمع من الأحرار، يكفلون له حرية الرأي وتداول المعلومات والمساواة أمام القانون. أما النظم الاستبدادية، فإعلامها يتحول إلى جهاز، ليس خادما للسلطة فحسب، بل إلى آلة طبل وتبرير، ولو كانت في أمور، تمثل خطورة عليه، وعلى كل من حوله.
لذلك لم يكن غريبا ألا يبرر الإعلام ما فعلته الحكومة، في قرارها المفاجئ بخفض قيمة الجنيه، بينما يتجاهل الكوارث التي طاولت جميع الأنشطة في البلاد. فالأسواق تكلست، مع اللحظات الأولى لقرار تخفيض الجنيه، حتى يعيد الناس حساباتهم. فهناك رجال أعمال اقترضوا من البنوك، لتمويل شراء سلع ومعدات، بسعر متفق عليه مسبقا. وهناك قروض تبدلت فوائدها، لا يعلمون كيف سيتولون تسديدها، في المرحلة المقبلة.
عقارات عرضها المقاولون للبيع، ولم تنفذ بعد، ومشروعات تحتاج إلى التريث وحل مشاكل التعويم الثاني للجنيه. وهناك أسر لن تستفيد من الحوافز المالية، التي أعلنت عنها الحكومة، وبدأت دفع آثار التدهور في قيمة الجنيه، مع ارتفاع أسعار جميع السلع على رأسها، رغيف الخبز والغذاء والدواء.
عندما تكالب الناس على شراء شهادات الادخار، بعائد 18% التي سوقتها الحكومة لتلافي سلبيات ارتفاع الفائدة على الدولار، وتداعيات الحرب، لم يدرك الإعلام أن البنوك مارست دور السماسرة، الذين يتلاعبون بالدولار في السوق السوداء.
لم يتوقف أي إعلامي منهم، عند مشهد الطوابير، ليدرك أن حكومته تقمصت دور شركات توظيف الأموال، التي رفعت العائد على الوديعة شهريا إلى 25%، حتى سحبت السيولة من الأسواق ثم تحكمت في أسعار كافة السلع، بداية من الذهب والسيارات إلى الأغذية والمشروبات، وصنعت في حينه، موجة عاتية من الغلاء، وعطلت المصانع، وسادت موجات هائلة من التضخم ثم الركود، لأن الأموال جمدت في أصول تافهة وتجارة رخيصة!
لم يكن غريبا أن تتحول وسائل التواصل الاجتماعي، إلى إعلام بديل للناس، عبر عن سخطهم لما وصل إليه حال الجنيه والأسواق، التي تجاهل الإعلام الرسمي متابعتها، مكتفيا بعرض النشرات التي تأتيه من الوزارات والأجهزة السيادية. الغريب في الأمر، أن كثيرا من أمراض الأزمة المالية الحالية لا ذنب فيها للحكومات، بل فرضتها ظروف الحرب، ومن قبلها وباء كورونا. وكان حريا بالنظام أن يبدأ بنفسه، ويرشد نفقات حكومته ويضع حدا للاقتراض من أجل مشروعات طويلة الأمد، عالية التكاليف، لأن الدولة في حاجة إلى المزيد من المصانع والمزارع، توفر الحاجات الأولية للمواطنين، وليس بناء المزيد من العقارات والقصور والقطارات الفارهة.
أولى بالإعلام الذي ينفصم عن الشعب، أن ينقل لحكومته تجارب الشعوب، التي تسعى إلى مواجهة تلك الأزمة العالمية، التي لا يعلم أحد مداها الزمني أو حدود خسائرها، لعلها تفيق وتقرأ التقارير الفنية أو تستمع إلى كلمات المسؤولين الدوليين الذين "يخشون على حدوث انفجار شعبي في مصر وغيرها من الدول العربية وشمال أفريقيا". فالجوع يهدد الجميع، كما يذكر البنك الدولي، ومنظمة الأغذية والزراعة " الفاو". فالكوارث لن تأتي على المنطقة فرادى، فإذا لم تكن من التحول المناخي، والحروب، تقع على أيدي الأنظمة الفاسدة، التي تدير شعوبها عبر نظم استبدادية، تخلق حلقات حولها، من المنتفعين الذين يسيئون إدارة موارد الدول، فيعرضونها للسرقة، ويشاركون في نهب ثرواتها ونقلها إلى الخارج.
هذا الاتهام لا نراه واقعا على مشهد من الناس فقط، بل تحذر من استفحاله، منظمة الشفافية الدولية، والاتحاد الأوروبي، ومراكز أبحاث عالمية كبرى، متاحة أمام الإعلاميين، ولمن يفقهون. وها هي دراسة رصينة أجرتها باحثة عربية (مها يحيى)، نشرت في مجلة" فورين أفيرز" الأميركية الأسبوع الحالي، تبين فيها أن" الشرق الأوسط على حافة الهاوية مرة أخرى".
تشرح الباحثة أن الربيع العربي الذي أطاح بالعديد من الأنظمة الاستبدادية، قفزت عليه أنظمة استبدادية، حولته عن مساره، ووظفت القمع والاستقطاب، للسيطرة على الحكم، وإحياء النظم الاستبدادية القديمة". تستطرد الدراسة: "بسبب افتقار بعض الحكومات العربية، إلى وسائل لاستمالة شعوبها، شرعت في تنفيذ مشاريع عملاقة، تهدف إلى إبراز قوة الدولة، وعظمتها، دون تقديم أي خدمات فعلية، مع دفع الإنفاق العام عبر الاقتراض وزيادة الدين العام، ومع عدم قدرتها على إعالة مواطنيها، ازداد اعتماد الأنظمة على الترهيب والقمع، عبر أجهزة الأمن والمليشيات الخاصة".
تخلص الدراسة، إلى أن اكتفاء الأنظمة بضمان الاستقرار، مقابل توفير الحد الأدنى لحياة المواطنين، يعرض الأفراد إلى الضغط مع تضاؤل الموارد، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى الانفجار، فلا يجب أن يطمئن أي مستبد، في المنطقة، لأن ما نراه حاليا بمثابة تحذير من عدم الاستقرار الأكبر، في المستقبل". فهل يشير إعلام الأراجوزات إلى هذه الرؤى الناصحة أم ينتظر الأوامر التي لن تأتيه، إلا عبر انتفاضات جديدة، كما مرت عليهم منذ سنوات قليلة؟!