همس لي صديقي رجل الأعمال المليونير، محاولاً إلقاء الضوء على بعض النقاط التي ظن أنها غابت عني بسبب غيابي عن البلاد خلال السنوات الخمس الماضية، فقال لي إن البلد مليء بالخيرات، وإن هناك كميات ضخمة من الثروات والأموال موجودة به، رغم ما يثار في بعض الأحيان عن تراجع النشاط الاقتصادي وزيادة معدلات الفقر، قبل أن يأخذني في جولة بسيارته الألمانية الفاخرة، ذات الإمكانات غير المستخدم أغلبها في الشوارع المصرية، للاطلاع على التطور العمراني في بعض أحياء القاهرة الجديدة.
انطلقت بنا السيارة، فشاهدت عشرات وربما مئات التجمعات السكنية الجديدة مما يطلق عليها لفظ كومباوند Compound، الممتلئة بالقصور والفيلات الجديدة، كما العمارات الراقية، مما يجمع في أغلبه بين الشكل الفني الجميل، ومتطلبات الرفاهية، بالإضافة إلى وفرة المساحات؛ حيث شمل أغلبها أماكن مخصصة لانتظار السيارات، وغرفاً للسائقين ومقدمي الخدمات لأهل هذه القصور والفيلات، في كثير من الأحيان. وفي حين كانت لافتة للنظر الأعداد الهائلة للوحدات الجديدة التي تم إنشاؤها، هالني ما عرفته بعد ذلك عن حجم الطلب عليها، رغم توقعي صعوبة تصريف كل ما كان معروضاً من عقارات.
تحدث صديقي عن أسعار لم يتخيلها أحد قبل خمس سنوات، خاصة مع انخفاض معدلات التضخم المعلنة من الحكومة المصرية وتراجع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري بنسبة تزيد عن عشرين بالمائة، لكن يبدو أن حجم الطلب المتنامي على الشراء كان له الصوت الأعلى في تحديد سعر الوحدات المعروضة.
تساءلت عن الأسعار بدافع الفضول لا الرغبة ولا القدرة على الشراء، فجاءت الإجابات لتوضح أن سعر شقة في عمارة لا تتجاوز مساحتها مائة متر في تلك "الكومباوندات" يماثل سعر بيت مستقل بحديقة، تزيد مساحته عن ثلاثة أضعاف تلك المساحة، في ولاية ماريلاند الأميركية (مرتفعة التكلفة)، وأن سعر الوحدة التجارية، التي يمكن استخدامها كعيادة طبية أو ما شابه بنفس المساحة يبلغ ضعف سعر الشقة.
وخلال جولة "استعراض عضلات" الإنشاءات التي تمت في القاهرة الجديدة، والتي قال لي صديقي إن لها نظيراً في كل من مدينة السادس من أكتوبر الموجودة غرب القاهرة وعلى أول طريق القاهرة الصحراوي إلى الإسكندرية، وفي العاصمة الإدارية الجديدة القريبة من شرق البلاد، والتي تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة القاهرة الكبرى، كما العديد من المحافظات المصرية، لفتت نظري كثرة عدد السيارات الألمانية الفخمة التي يقودها شباب من صغار السن، بين 25 – 35 سنة، من الجنسين، على غير ما اعتدت رؤيته في أميركا، ولفت نظري أكثر، بصورة بها قليل من الطبقية وكثير من الأحكام المسبقة، أنه لا يوجد ما يوحي بأن هؤلاء الشباب قد ورثوا تلك السيارات عن آبائهم، أو أن آباءهم كانوا هم من دفعوا ثمنها. فلما نقلت انطباعاتي لصديقي، قال لي إن هؤلاء هم "أبناء الحقبة العقارية"، الذين تمكنوا من تكوين الثروات وتحقيق الكثير من أحلامهم، فقط بعملهم في نشاط تسويق العقارات، وحصولهم على عمولات كبيرة عند إتمام بيع أي وحدة.
لم أسأل صديقي المليونير عن الفقراء، فهو غالباً لا يعرفهم، ولا يتعامل معهم، ولا يعرف أبناؤه أبناءهم، ولا يذهب الفريقان إلى نفس المدارس أو الجامعات أو المستشفيات، ولا يكادون يتقابلون رغم ازدحام الطرق والشوارع، فرجعت إلى بيانات البنك الدولي ومراكز الأبحاث، لأجد أن أكثر من 35 مليون مصري ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر، وأن أكثر من 60 مليونا هم من الفقراء أو معرضون للفقر، وهو ما يعني أن ما يقرب من ثلثي الشعب يعاني من أجل الحصول على قوت يومه وقضاء الحاجات الأساسية له ولأفراد أسرته، من تعليم وصحة وخلافه.
ازداد عدد فقراء هذا البلد ومهمشيه رغم الطفرة الإنشائية وانتشار التجمعات العمرانية شديدة الرفاهية وبيعها بأسعار جنونية وبحجم مبيعات يتجاوز توقعات أشد المتفائلين، لأن تكلفة المعيشة ارتفعت على الملايين بعد تخفيض وإلغاء الدعم الحكومي لأسعار الكهرباء والمياه والغاز ورغيف العيش وربط سعر الوقود المبيع للمواطن المصري بسعره العالمي، وهو ما التزمت به الحكومة المصرية قبل حصولها على قروض صندوق النقد الدولي.
يتحمل المواطن المصري التكلفة العالمية لأغلب ما يشتريه، حيث يتم استيراد نسبة لا يستهان بها من كل ما يأكله ويلبسه ويركبه المصريون. ومع ملاحظة مستويات الدخول الضعيفة جداً في مصر، بعيداً عن القطاع المصرفي وقطاعي الطاقة والاتصالات، يتضح حجم المعاناة التي يعانيها وسيعانيها المصريون في الشهور القادمة، لو استمر الحال على ما هو عليه.
تعللت الحكومات المصرية المتعاقبة بانخفاض تكلفة المعيشة في مصر مقارنة بالبلدان الأخرى لتبرير انخفاض مستويات الدخل لدى أغلب المصريين. لكن قبول هذا المنطق لم يعد ممكناً بعد ما شهدناه من قفزات في الأسعار يشعر بها كل من عاش في مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث ازدادت معاناة الملايين لارتباط أغلب ما يشتريه المواطن بالسعر العالمي، بينما ظل دخله مربوطاً عند المستوى المحلي، مع استثناء انتعاش أحوال آلاف المستفيدين من الطفرة العقارية الإنشائية الحالية. في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي، فرضت الحكومة على المواطن المصري دفع السعر العالمي لكل ما يطلبه من سلع وخدمات، إلا أنها في نفس الوقت لا تدفع له مقابل ما يعرضه من عمل إلا النذر اليسير مما يُدفع لمثيله في أغلب دول العالم الأخرى.
و سلمنا بأن المواطن المصري يتحمل بعض المسؤولية، بسبب ضعف إنتاجيته وفقاً للأرقام المعلنة، إلا أن هناك دوراً لا يمكن تجاهله، يتعين على الحكومة القيام به، وهو ما يخص زيادة الإنفاق الاستثماري وتشجيع القطاع الخاص وتمهيد التربة الصالحة لجذب الاستثمارات الأجنبية خارج قطاعي الطاقة والعقارات، من أجل دفع معدلات النمو، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي وخلق المزيد من فرص العمل، لأن "كومباوندات" القاهرة الجديدة لا تحدث تنمية حقيقية، وأراها هروباً من المهام الصعبة.