بتنا على بعد أيام من طرح أول لقاح لعلاج فيروس كورونا، رؤساء دول وشركات إنتاج أدوية كبرى يؤكدون أن الطرح سيتم في نهاية الشهر المقبل، وهذا الطرح سيعيد للعالم بعضاً من توازنه الاقتصادي والمالي والصحي المفقود منذ بداية العام.
صحيح أننا لا نتوقع انقشاعا سريعا لأسوأ أزمة صحية يشهدها العالم في مائة عام، وانحسارا لأسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم في العام 1929، أو أن تشهد الأسابيع الأخيرة من العام الجاري تحسنا سريعا في حالات التعافي من الوباء ومؤشرات الاقتصاد طالما لم يوزّع اللقاح على نطاق واسع وعلى أكبر عدد من الدول بما فيها النامية، وبالتالي سيبقى العالم بعض الوقت في فترة ضبابية وغموض وحالة من عدم اليقين.
لكن على أية حال فإن مجرد طرح اللقاح ستكون له تداعيات مهمة على الاقتصاد العالمي وأنشطته المختلفة، خاصة المتعلقة بأسعار النفط وحركة الإنتاج والطيران وأسواق المال والبورصات والمحال التجارية.
فهذا الاقتصاد قبل طرح اللقاح لن يكون هو نفسه اقتصاد ما بعد الطرح وبدء توزيع اللقاح، فالعالم حاليا، وفي ظل الموجة الثانية من كورونا، يعيش حالة شديدة من الارتباك، خاصة مع قيام دول ذات اقتصاديات كبيرة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتركيا، بإغلاق أنشطة الاقتصاد كلياً أو جزئياً، ووضع قيود على حركة السفر والطيران والأسواق والمحال.
كما أن اقتصاد العالم يعيش حاليا حالة من الانكماش الشديدة يصاحبها تراجع في معدلات النمو، وزيادات قياسية في الدين العام، وخسائر فادحة للقطاعات المختلفة، وزيادة قياسية في معدلات البطالة وتراجع فرص العمل المتاحة، وبطئا في حركة التجارة الدولية، وأسعار نفط منخفضة أضرت كثيرا بالدول المنتجة، وعمقت عجز الموازنات لديها، ودفعتها نحو التقشف وترشيد النفقات والتوسع في الاقتراض، أو تسييل أصولها الخارجية.
أما الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد لقاح كورونا فقد يشهد تغيرات جذرية في محاولة من الحكومات للحد من الخسائر الفادحة التي تعرضت لها الدول وقت تفشي الوباء، خاصة المتعلقة بفرص العمل وتراجع الإيرادات العامة.
طرح لقاح علاج الفيروس ستتبعه مباشرة زيادة في أسعار النفط والغاز الطبيعي بسبب عودة الطلب على منتجات الطاقة من قبل المصانع والمنشآت الإنتاجية الكبرى حول العالم، وهذه الزيادة ستصب في صالح موازنات الدول المنتجة للنفط الأسود، ومنها دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا عربيا، وروسيا والنرويج وفنزويلا وإيران وغيرها أجنبيا.
يتبع زيادة أسعار النفط حدوث صحوة في أسواق المال والبورصات العالمية والعربية، خاصة الخليجية، التي ترتبط حركة التداول بها بتحركات أسعار النفط.
كما يتبع طرح اللقاح مباشرة عودة المصانع للإنتاج بكل طاقتها، وبالتالي امتصاص البطالة وزيادة الصادرات، وكذا عودة النشاط للقطاعات الاقتصادية، مثل السياحة والطيران والسفر والنقل، الصادرات الخارجية، حركة الشاحنات والبناء والتشييد وغيرها.
بالطبع، هناك متضررون من اللقاح، منها الذهب مثلا، فمن المتوقع أن تعيد بنوك الاستثمار العالمية الكبرى توقعاتها بالنسبة لسعر المعدن النفيس بعدما توقعت بلوغ سعر الأوقية 3 آلاف دولار بحلول العام 2022.
إلا أن هذه التوقعات لن تكون مقنعة مع تراجع المخاطر العالمية عقب طرح اللقاح وإتاحته لكل دول العالم بحلول شهر يونيو/ حزيران المقبل وربما قبل ذلك، خاصة مع زيادة عدد الشركات المنتجة للقاح، وتعهد مجموعة العشرين بتوزيع ملياري جرعة لقاح على دول العالم، وتعهد الصين بنشر اللقاح على نطاق واسع.
بالطبع لن يسترد الاقتصاد العالمي عافيته بشكل سريع كما يأمل البعض، وخاصة أن كلفة تفشي وباء كورونا باهظة، سواء على المستوى الصحي أو الاقتصادي، ويكفي أن نستدل بأرقام صندوق النقد الدولي التي قدر فيها خسائر العالم من كورونا بنحو 28 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.
لكن على أية حال فإن بداية طرح اللقاح مع نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل تعطي بريق أمل للأسواق والحكومات والاقتصادات المتهاوية، كما تعطي فرصة لأسواق المال والمستثمرين لالتقاط الأنفاس ووقف نزيف الخسائر.