طوفان لبنان... جبهة حرب الفاسدين

12 نوفمبر 2024
خلال غرق شوارع بيروت بالمياه، 9 ديسمبر 2019 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني لبنان من انهيار شبه كامل لمقومات الدولة بسبب سيطرة المافيات والمليشيات، مما أضعف العقد الاجتماعي وأدى إلى فساد السلطة، حيث يضطر المواطنون للانضمام للعصابات أو الهروب من البلاد.

- تتفاقم الأزمات بسبب الفساد في مؤسسات الدولة، حيث أنفقت مليارات الدولارات على صيانة الطرقات دون جدوى، مع تبادل الاتهامات بين مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال العامة والنقل.

- في ظل الأزمة النقدية منذ 2019، تضاءلت المخصصات لصيانة الطرقات، ولم تتخذ الوزارة خطوات فعالة، مما يفاقم معاناة المواطنين وسط فساد ونهب مستمر.

لا دولة في لبنان. هذا أمر لا يحتاج إلى كثير من التعليل. فقد عمدت المافيات والمليشيات خلال السنوات الماضية إلى هدم أركان الدولة واحداً تلو الآخر. شعب دائم، وحكومة، وإقليم، وسيادة تتضمن القدرة على إقامة علاقات دولية، أربعة عناصر يحددها القانون الدولي في مسألة تعريف الدولة، مفككة في لبنان حد الغياب. الغوص أكثر في تعريفات علم الاجتماع لمفهوم الدولة يجعل الأمر أكثر مأساوية.

إذ إن العقد الاجتماعي، مثلاً، الذي يتحدث عنه جان جاك روسو بحيث تتشكل السلطة لحماية حقوق الأفراد وضمان حرياتهم وتقديم الخدمات مقابل التزام الأفراد بالقوانين، هذا العقد في لبنان يكاد لا يُرى. بعيداً عن فلسفة المصطلح، يمكن لمن ينظر إلى هذا البلد من بعيد أن يراه كتلة من البشر، يحاولون التعايش تحت سلطة من السارقين والقتلة.

عصابة تديرها قلة، يلتحق بها الآلاف اقتناعاً ممزوجاً بخوف من العزلة المجتمعية، أو بطمع بفتات الخدمات وفرص العمل، أو برغبة في امتلاك نوعٍ من السلطة والتفوق على الباقين، كأن يتوزع زعماء صغار على الأحياء تحت سلطة الزعماء الكبار. وتحت سلطة هؤلاء، يوجد الآلاف من اللبنانيين الذين يحاولون العيش في البلد، ويسعون بين فترة وأخرى للتحرك في الشارع بين فخاخ وضعتها العصابة ذاتها تبدأ بالتخوين والترويع وتنتهي بالعنف ضرباً أو قتلاً، أو يهربون إلى خارجه.

في هذا الكيان الهلامي العجيب، تدور حرب شرسة تشنها إسرائيل على لبنان، ويغرق المواطنون بمأساة مزدوجة: عصابة تفكر باليوم الأول ما بعد انتهاء الحرب، وكيف ستبقي على سلطتها وتحافظ على ثروتها في ظل مؤسسات ضعيفة بلا أي دور خدمي يفيد الناس، وطائرات تقصف وتقتل وتدمر ولا تجد من يردعها.

مؤشرات الأزمة كثيرة. أحدثها غرق طرقات لبنان وأنفاقه بالمياه بعد هطول المطر، حيث اجتاحت المياه المنازل والمحال، وامتدت طوابير السيارات لساعات على الطرقات. والمشكلة هنا لا تصنف "كارثة طبيعية"، بل هي نتاج حقبة من الفساد التي طبعت ملف صيانة الطرقات وتأهيلها لسنوات مضت.

إذ يتشارك كل من "مجلس الإنماء والإعمار" ووزارة الأشغال العامة والنقل مسؤولية الوضع السيئ لطرقات لبنان قبل الحرب وبعدها. حيث تم إنفاق حوالي 7 مليارات دولار حتى اليوم على أعمال الصيانة، وتشاركت المشاريع شركات عدد غير قليل منها تابع لأفراد العصابة إياها وأعوانهم، وسط خلافات وتقاذف مسؤوليات تاريخي ما بين المجلس والوزارة مع كل صفقة تشييد أو صيانة طريق أو أوتستراد تثبت فشلها.

يتشارك كل من "مجلس الإنماء والإعمار" ووزارة الأشغال العامة والنقل مسؤولية الوضع السيئ لطرقات لبنان قبل الحرب وبعدها. حيث تم إنفاق حوالي 7 مليارات دولار حتى اليوم على أعمال الصيانة

ووقع مجلس الإنماء والإعمار عقوداً وصلت إلى 3 مليارات دولار ما بين العام 1992 و2018. فيما رصد نحو 3.3 مليارات دولار ضمن موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل اعتمادات لصيانة الطرقات على تنوع تصنيفها. أي أن مجموع ما أنفق على الطرقات منذ العام 1992 ولغاية العام 2018 يزيد عن 6.2 مليارات دولار، وهو مبلغ كبير وضخم إذا ما قورن بواقع الطرقات المتردي والسيئ، وفق أرقام "الدولية للمعلومات".

وتفيد بيانات أخرى بأن مجلس الإنماء والإعمار وقّع 417 عقداً في قطاع الطرق بقيمة 1.17 مليار دولار خلال 20 عاماً حتى 2020، وأن موازنة وزارة الأشغال لصيانة الطرق بلغت 486 مليون دولار خلال ثلاث سنوات (2017 – 2019)، وأن الدولة اللبنانية حصلت على 23 قرضاً بقيمة 1.26 مليار دولار لقطاع الطرق خلال 30 عاماً حتى 2020، وفق مبادرة "غربال" البحثية.

موقف
التحديثات الحية

الأرقام تناقصت ما بعد انكشاف الأزمة النقدية في العام 2019 التي نتجت من نهب البلد على يد العصابة ذاتها خلال سنوات ما بعد الحرب الأهلية، إلا أن المخصصات لم تنقطع. فبين عامي 2019 و2024 تم تخصيص ما بين مليونين و60 مليون دولار في موازنة 2024 لصيانة الطرقات، وقد تضاءلت المخصصات بعد انكشاف عملية النهب الكبرى ومع تراجع سعر صرف الليرة وبالتالي هبوط كلفة الأشغال المتوقع مع تطورات كهذه.

ورغم ذلك، غابت فرق الصيانة عن الطرقات وكأن مالاً لم يكن. ولم تتعب وزارة الأشغال العامة والنقل عبر وزيرها في الخروج بعد كل طوفان للطرقات بشكاوى حول ضآلة مخصصات الصيانة. حتى بعد الحرب والدمار وانقطاع سبل التنقل ما بين المدن والقرى وانحسارها في بقعة صغيرة، لا تزال الوزارة تكرر النشيد ذاته. آخرها أن كلفة الصيانة لا تقل عن 350 مليون دولار، وسط مطالبات بزيادة حجم المخصصات لتسوية وضع الطرقات.

يطالب الوزير بمال إضافي، فيما البلد منهوب، والناهبون معروفون بالأسماء، وصادف أن عامة الناس هم منهوبون أيضاً، وبالتالي ليسوا قادرين على التبرع بأموالهم المحتجزة في المصارف

وأمام هذه الشكاوى، يقف اللبنانيون الغارقون تحت القذائف، والمياه، وجبروت العصابة حائرين. يطالب الوزير بمال إضافي، فيما البلد منهوب، والناهبون معروفون بالأسماء، وصادف أن عامة الناس هم منهوبون أيضاً، وبالتالي ليسوا قادرين على التبرع بأموالهم المحتجزة في المصارف غصباً عنهم وبمخالفة قانونية صارخة.

هنا قد يظن سائل أن الوزير يتوجه للمجتمع الدولي للإقراض أو المساعدة، لكن هؤلاء يعرفون أن البلد منهوب، وأن الناهبين معروفون بالاسم، وأن ملايينهم التي صرفت على صيانة الطرقات غرقت هي الأخرى في بركة الفساد. أم أن الوزير يرفع شكواه إلى العصابة التي نهبت البلد، علها تتبرع بالقليل من مليارات الدولارات التي اكتنزتها من نهب جيوب الناس؟

كل ما يحدث يؤكد أنه تم تجريد لبنان من بنية الدولة، الطوفان الذي يواجهه المواطنون اليوم ليس حدثاً عابراً، هو جزء من تفريغ المؤسسات من أي قدرة على تقديم أي خدمة بديهية، هو إضعاف لتسهيل السيطرة، وقد حصل هذا التجريد بقرار، ولكن الوزير يشكو، بدلاً من القيام بدوره: البحث عن بديل وحل الأزمة، إذ إن للخزان جدراناً يمكن دقها.