لم يكن يخطر على بال الشاب العشريني هيثم المطري، أن يعمل يوماً ما كسائق حافلة صغيرة يجوب فيها شوارع العاصمة اليمنية صنعاء طوال فترات اليوم لتوفير ما أمكن من المال يعينه على استكمال دراسته الجامعية وجزء من احتياجات عائلته المعيشية اليومية.
يقول الشاب العشريني لـ"العربي الجديد": "لم يعد أحد قادراً على تحمل الوضع الراهن الذي تعاني فيه الأسر من ثقل الحياة المعيشية اليومية وهو ما دفعه للبحث عن أي فرصة عمل، إذ لم يكن من المتاح ما هو أنسب من استئجار باص بنحو 2000 ريال يومياً".
نفس الخيار لجأ له زيد إسحق، وهو في الثلاثين من عمره، خصوصاً بعد أن ظل لأكثر من أربع سنوات منذ تخرجه من الجامعة من دون عمل ووجد نفسه عبئاً كبيراً على أسرته. ويقول لـ"العربي الجديد" إن "عدد باصات وحافلات المواصلات الداخلية أصبحت تفوق عدد الركاب".
ومع تراجع فرص العمل والتشغيل في اليمن بسبب الحرب والصراع الدائر في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات وتفاقم أزمة البطالة، لم يعد الكثيرون يمانعون في شغل أي فرصة عمل ولو تلك التي كان ينفر منها نسبة كبيرة وتندرج تحت قائمة المهن المحتقرة لدى شريحة واسعة من الناس متجاوزين ثقافة العيب الطاغية في المجتمع.
في مدينة إب وسط اليمن يمثل حمدي محمد (45 عاماً) نموذجا للكثير بعد أن أجبرته الظروف لتعلم مهنة الحلاقة واقتراض المال لفتح صالون لمزاولتها وانضمام ابنه البالغ من العمر 18 عاماً للعمل بجانبه بعد قيامه بتدريبه على مزاولة هذه المهنة.
يستهجن حمدي في حديثة لـ"العربي الجديد"، ثقافة العيب من المهن والأعمال والنفور منها إذا كانت ستبقيه في منزله يتضور وأسرته من الجوع الذي دفع كذلك إحدى النساء في صنعاء والتي عرفت عن نفسها باسم مريم لبيع الخضروات والفاكهة في أحد الأسواق لإعالة أطفالها الخمسة بعد وفاة زوجها الذي عانى كثيراً قبل وفاته بحسب حديثها مع "العربي الجديد"، بعد أن توقف راتبه الحكومي كموظف مدني وتقطعت به السبل وضاقت عليه الحياة.
بدوره، يقول عبدالكريم علي، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة صنعاء، لـ"العربي الجديد"، إن الدولة في اليمن ساهمت خلال العقود الماضية في بروز ظواهر النفور من العديد من المهن، بعد أن جعلت من الدوائر والمؤسسات الحكومية المشغل الرئيسي والوظيفة العامة الفرصة الوحيدة المتاحة من الأعمال، وهو ما أدى إلى تضخم هائل في الجهاز الإداري للخدمة المدنية وتفشي الفساد والمحسوبية والازدواج الوظيفي ووصول الأمر إلى توظيف جميع أفراد الأسرة الواحدة حتى الأطفال ولو بمنحهم رقما عسكريا يمكنهم من استلام راتب نهاية كل شهر وهم في منازلهم، وأثر بالتالي ذلك على تقاعس البعض ونفورهم من عديد المهن والأنشطة والأعمال.
وكانت دراسات وأبحاث أجريت قبل الحرب في اليمن قد رسمت صورة واضحة لما سيعانيه اليمن حالياً، وذلك بعد أن كشفت عن معدل نمو قوة العمل الهائل.
ويشير الخبير في أنظمة العمل مطيع القدسي، لـ"العربي الجديد"، إلى أن التبعات الكارثية الناتجة عن الحرب أجبرت اليمنيين على التوجه إلى سوق العمل وتعلم المهن والحرف والأنشطة التي لم يعتد البعض عليها وهو ما ساهم في إنقاذ ما أمكن منها من التهاوي والانهيار في محاولة للبقاء والصمود في وجه الأزمات المعيشية التي تفوق قدرات الكثيرين على تحملها في ظل توسع متواصل للبطالة نتيجة التدمير الذي طاول مؤسسات الأعمال العامة وتأثر القطاع الخاص بالوضعية الراهنة، وهو ما جعل العرض يفوق كثيراً حجم الطلب في سوق العمل.
ويلفت القدسي إلى أنه كان يعول كثيراً على المنشآت الصغيرة في مواجهة هذه الأزمة، نظراً لقدرتها على توفير فرص العمل بنسبة تزيد على 60% لكنها هي الأخرى تواجه العديد من المشاكل والتحديات التي أثرت بصورة نسبية على قدراتها على الاستدامة والتشغيل.
ومع إطالة أمد الصراع وتفاقم الأزمات المعيشية، وصلت قدرة المواطنين والعمال اليمنيين على الصمود إلى منتهاها مع غياب مصدر ثابت للدخل لمعظمهم، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وندرة فرص العمل.
وتظهر بيانات سوق العمل أن النسبة الأكبر من المشتغلين في البلاد من فئة الشباب يعملون لدى الغير بنسبة 50% من إجمالي العاملين، فيما يعمل نحو 27% في الإطار الأسري، أي أنها عمالة غير منتظمة وتتركز معظمها في القطاع الزراعي، فيما تصل نسبة العاملين لحسابهم الخاص وأغلبهم في القطاع غير الرسمي فيصل إلى نحو 20%، بينما تصل نسبة أرباب العمل من فئة الشباب ويلاحظ مساهماتهم في خلق فرص العمل أمام طالبي الأعمال لا تتجاوز 2% من مجموع العاملين الشباب.