كان من المفترض أن يكون 2020 عاماً بالغ الخصوصية في العلاقات الثنائية بين إيطاليا والصين، إذ إنه يوافق الذكرى الخمسين لبدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك قبل أن تتسبب جائحة كورونا في إلغاء الجانب الأعظم من الاحتفالات والفعاليات العامة التي كان قد خُطط لها في إيطاليا منذ 2015. وكان باولو جينتيلوني، وزير الخارجية الإيطالي آنذاك، قد طرح رؤية استراتيجية للعلاقات الإيطالية – الصينية، أُطلق عليها "الطريق نحو الـ50".
هذا الطريق بلغ آفاقاً لم تكن في الحسبان عندما وقع البلدان في 23 مارس/آذار 2019 مذكرة تفاهم لانضمام إيطاليا لمشروع "طريق الحرير الجديد" العالمي الضخم للبنى التحتية البحرية والبرية الذي كانت بكين قد أطلقته في 2013 وانضمت إليه أكثر من 100 دولة على مستوى العالم. وقد عبرت المذكرة عن رغبة البلدين في تعزيز التعاون الثنائي في قطاعات الاتصالات والنقل والدعم الإداري والبنى التحتية والتجارة والاستثمارات والتعاون المالي وتبادل الزيارات والخبرات علاوة على التنمية الخضراء.
وقد استثمرت الصين، في إطار هذا المشروع، المليارات في برامج بنى تحتية كبرى في دول نامية على وجه الخصوص في أفريقيا وآسيا عبر بناء موانئ ومطارات وطرق وسكك حديدية وغيرها. هذا المشروع اعتبره مراقبون غربيون اختراقاً اقتصادياً يتركز هدفه النهائي في الهيمنة السياسية.
وخلال اجتماعات قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى في كورنويل ببريطانيا، طرحت الإدارة الأميركية مشروعاً بديلاً لطريق الحرير الصيني، أُطلق عليه "إعادة بناء عالم أفضل"، كان من شأنه إرباك علاقات إيطاليا، التي كانت الدولة الغربية الوحيدة المنضمة للمشروع الصيني، مع الولايات المتحدة.
وكان من اللافت التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، في مؤتمر صحافي عقد على هامش القمة، حيث قال إن "مشكلة انضمام إيطاليا إلى مشروع الحرير لم تُطرَح قط، ولكننا سوف نبحثها بعناية". وقد علقت صحيفة "إل سيكولو ديتاليا" اليمينية الإيطالية على تلك التصريحات، بأنها تعني أن الحكومة الإيطالية على استعداد لإعادة النظر في موقفها، ما يمثل الحد الأدنى بعد حملة الكفاح الديمقراطية التي شنها الرئيس الأميركي بايدن ضد "الأنظمة الاستبدادية في العالم".
وفي حديث خاص لمجلة "فورميكي" الإيطالية، علق مصدر دبلوماسي إيطالي، على تصريحات رئيس الحكومة الإيطالية، بقوله إن "مذكرة التفاهم الموقعة مع الصين ليست عقد زواج (كاثوليكي)، وليست حتى اتفاقية دولية من الممكن أن ينبثق منها حقوق وواجبات منصوص عليها في القانون الدولي، لذا فإنه من أجل النكوص عليها يكفي صياغة مذكرة من قبل وزارة الخارجية الإيطالية بذات الخصوص وإرسالها في أي وقت، حتى اليوم"، مستدركاً بقوله إن "رد فعل بكين، في هذه الحالة، من الممكن أن يتسبب في مخاطر للمواطنين الإيطاليين وللشركات الإيطالية في الصين، على غرار ما حدث في أعقاب إلغاء أستراليا لبعض العقود في مشروع طريق الحرير".
ولفتت المجلة إلى أن مذكرة التفاهم الإيطالية – الصينية سارية لمدة 5 سنوات من التوقيع عليها، تُمدد بشكل تلقائي لمدد مماثلة، إلا إذا أراد أحد الطرفين الانسحاب منها مقدماً إنذاراً كتابياً قبلها بثلاثة أشهر على الأقل. وبناء على ذلك، فمازال أمام إيطاليا وقت حتى نهاية 2023 وعندها من الممكن أن تكون ردة فعل الصين أقل حدة، ولكن المدة المتبقية طويلة ولا يبدو أن الدعاية الموالية للصين، داخل إيطاليا، قد سلمت بالهزيمة.
وأشارت في هذا السياق إلى الزيارة التي أجراها بيبَي غريللو مؤسس حركة 5 نجوم، والداعم لتقرير صادر بالإنكليزية والإيطالية والموقع من باحثين مجهولين للدفاع عن الصين ضد الانحياز الأعمى للحكومات ووسائل الإعلام الغربية في مسألة اضطهاد المسلمين الإيغور، وجوزيبي كونتي رئيس الحكومة السابق والزعيم الحالي للحركة إلى مقر السفارة الصينية بروما ومقابلة سفير بكين تزامناً مع انعقاد قمة مجموعة السبع.
وفي تقرير آخر (بتاريخ 15 يونيو/حزيران الجاري)، كشفت "فورميكي" أنها حصلت على وثيقة رسمية توشك وزارة الخارجية الإيطالية على الانتهاء منها وتحمل عنوان "خطة عمل على 3 سنوات لتعزيز التعاون مع الصين (2021-2023)"، والتي تجيء في إطار الاستعدادات للقمة المزمع عقدها في الأسابيع المقبلة بين دراغي ونظيره الصيني لي كيكيانغ، والتي تضع علامات استفهام جديدة بشأن موقف روما من مشروع طريق الحرير الجديد.
وتابعت المجلة أن هذه الوثيقة، التي لم تُرسَل بعد إلى رئاسة مجلس الوزراء، شهدت عدة مراحل جيئة وذهاباً على مدار أشهر بين وزارتي الخارجية في البلدين، بدأت في عهد رئيس الوزراء السابق كونتي، الذي وقع على مذكرة التفاهم في عام 2019.
وأوضحت أن خطة العمل الجديدة المقترحة تعطي أولوية لقطاعات "الاقتصاد والتجارة والاستثمار والمالية والاتصالات والتعاون في أسواق الدول الأخرى والتنمية المستدامة والصحة والأدوية والبحث العلمي والتكنولوجيا والفضاء والتبادل الثقافي والرياضة".
ولفتت إلى لغة المكسب/المكسب (win-win) الصينية التي غلبت على بعض فقرات الوثيقة، بتعبيرها عن "رغبة الطرفين في دفع تفعيل بنود مذكرة التفاهم الموقعة بين البلدين في إطار مشروع طريق الحرير الاقتصادي ومبادرة طريق الحرير البحري للقرن الـ21 وتعزيز ربط مبادرة (الحزام والطريق) الصينية باستراتيجية الربط الأورو-آسيوية للاتحاد الأوروبي" والتشديد أيضاً على "عزم الطرفين على إقامة تعاون فعال على كل المستويات من شأنه تطوير العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي".
ونصت الوثيقة كذلك، بحسب المجلة، على "التزام الطرفين باتخاذ الإجراءات الملائمة من أجل توفير حماية أفضل لحقوق الملكية الفكرية وتعزيز قدرات مكافحة التزوير أيضاً على الشبكة العنكبوتية" ولكن من دون التطرق إلى مسألة حقوق الإنسان، الموضوع الذي غلب على مناقشات قمة مجموعة السبع.
وأشارت إلى أنه بدت واضحة التعديلات التي أجرتها وزارة الخارجية الإيطالية من أجل تخفيف حدة بعض فقرات الوثيقة مقابل الرغبات الصينية، وعلى سبيل المثال فقد أُزيل الالتزام بـ"البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق الصينية".
واعتبرت أن هذه الوثيقة خطوة للوراء مقارنة بـ(خطة العمل نحو 2025) الأكثر وضوحاً والتي كانت قد حررتها الإدارة العامة لمنظومة دفع الصادرات والاستثمارات الوطنية التابعة لوزارة الخارجية في 2019، والتي تناولت بالتفصيل التعاون العلمي والتكنولوجي بين البلدين.
وختمت المجلة بقولها إنه على الرغم مما سبق، يبدو أن هذه الوثيقة تقترح على رئاسة الحكومة الإيطالية المضي قدماً بالكلية على مسار مشروع طريق الحرير الصيني، وهو الاتجاه الذي كان من الواضح أن رئيس الوزراء دراغي يرغب في تحاشيه.
في ظل هذا الوضع، تبدو القيادة الإيطالية واقعة بين مطرقة حلفائها في حلف الناتو ومجموعة السبع الصناعية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة وسندان الداخل المتمثل في حركة 5 نجوم، أحد جناحي الائتلاف الحاكم في البلاد، المساندة للصين. وسوف تكشف الأسابيع المقبلة إلى أي كفة سوف تميل دفة روما سواء شرقاً أم غرباً.