صندوق سيادي لبناني لإنقاذ المصارف

10 يونيو 2022
المصارف اللبنانية لا ترغب في تحمّل جزء من خسائر القطاع البنكي (getty)
+ الخط -

لم يُرضِ جمعيّة المصارف أن تُنجز الحكومة اللبنانيّة خطّتها الخاصّة للتعافي المالي، بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي، وبصيغة تحمّل الرساميل المصرفيّة أقصى ما يمكن أن تتحمّله من الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع.

فمنذ دخول البلاد نفق الانهيار المالي، خاضت المصارف كل ما يمكن خوضه من معارك إعلاميّة وسياسيّة، لتقليص نسبة الخسائر التي سيتم تحميلها إلى الرساميل المصرفيّة، في إطار عمليّة إعادة هيكلة ورسملة القطاع.

وكما بات معلوما، اصطدمت جميع هذه المحاولات في السابق بشروط صندوق النقد، الذي أصرّ على مبدأ تحميل أسهم المساهمين في القطاع الشريحة الأولى من الخسائر، قبل الانتقال لتحميلها للمودعين، باعتبارها خسائر ناتجة عن القرارات والمجازفات الاستثماريّة التي قامت بها المصارف في الماضي.
في كل الحالات، وفي مقابل خطّة الحكومة وطرح صندوق النقد، سرعان ما بادرت جمعيّة المصارف لإعادة تسويق طرحها البديل التاريخي المعروف، والذي تبنّاه أخيرًا العديد من القوى السياسيّة المؤثّرة محليًّا.

الطرح، الذي بات يُعرف محلّيًا بمشروع "الصندوق السيادي"، يقوم على فكرة جمع كتلة من الأصول العقاريّة المملوكة من الدولة والمرافق العامّة في صندوق خاص، بما يسمح بتخصيص عائدات استثمار هذه الموجودات للتعامل مع كتلة الخسائر المصرفيّة وسداد الودائع، مقابل تحييد رساميل أصحاب المصارف عن هذه الخسائر. مع الإشارة إلى أنّ خطّة جمعيّة المصارف البديلة تقدّر قيمة الموجودات التي يفترض تقديمها للصندوق بنحو 40 مليار دولار، أي ما يقارب ضعف الناتج المحلّي للبلاد.

من الناحية العمليّة، لم تكن هذه المرّة الأولى التي تقدّم فيها جمعيّة المصارف هذا الطرح. إذ سبق أن قدّمت الجمعيّة المقترح نفسه في إطار الخطّة البديلة التي أعلنت عنها عام 2020، ردًّا على خطّة حكومة حسّان دياب، والتي انطوت بدورها على بنود أثارت حفيظة أصحاب المصارف.

ففي ذلك الوقت، وفي ضوء ملاحظات صندوق النقد الدولي، وتمامًا كما فعلت حكومة ميقاتي أخيرًا، ضمّنت حكومة دياب خطّتها بنودا تنص على شطب الرساميل المصرفيّة بالكامل وإعادة رسملة القطاع للتعامل مع الخسائر، وهو ما دفع جمعيّة المصارف للاعتراض واقتراح فكرة الصندوق السيادي.

لم تستكمل جمعيّة المصارف العمل على تسويق مقترحها منذ عامين، إذ سقطت خطّة حكومة دياب سريعًا في المجلس النيابي، بعدما انحازت معظم القوى السياسيّة في المجلس لمصلحة جمعيّة المصارف. ومع سقوط الخطّة في مجلس النوّاب، ومن ثم استقالة حكومة دياب، توقّف النقاش في مسألة الخطّة الماليّة الحكوميّة، فاستراحت الجمعيّة من عناء طرح وتسويق المقترحات البديلة بغياب الخطّة الأصليّة التي تقلقها.

اليوم، ومع طرح خطّة التعافي المالي الجديدة أمام الرأي العام، تحرّكت جمعيّة المصارف مجددًا لتسوّق طرح الصندوق السيادي. لكن هذه المرّة، كان من الواضح أن الجمعيّة عملت على حشد التأييد الإعلامي والسياسي للفكرة، بهدف محاولة تعديل خطّة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة اللبنانيّة، وضم مشروع الصندوق السيادي كبديل عن فكرة شطب الرساميل المصرفيّة.

منذ البداية، عبّر الكثير من المراقبين عن خشيتهم من آثار هذا النوع من الأفكار التي تطرحها جمعيّة المصارف. فتأمين 40 مليار دولار من الأصول والمرافق العامّة، لضمّها إلى الصندوق، سيعني رهن عوائد استثمار الغالبيّة الساحقة مما تبقّى من ثروات المجتمع اللبناني التي تملكها الدولة، ولعقود طويلة من الزمن، لغاية واحدة هي إطفاء الخسائر المصرفيّة.

ولتأمين هذا الحجم من الأصول، ستحتاج الدولة إلى رهن المرافئ والمطار وشركتي الخليوي وشركة الاتصالات الأرضيّة ومؤسسة الكهرباء وشركة الطيران، ناهيك بقسم كبير من العقارات العامّة القابلة للاستثمار.

وهكذا، سيكون على الأجيال المقبلة كلفة إطفاء الخسائر التي تراكمت في الماضي، في ميزانيّات القطاع المصرفي، من خلال كلفة الخدمات التي تؤمّنها هذه المرافق العامّة. أمّا هذه الكلفة، فليست سوى الثمن الذي سيدفعه المجتمع بأسره، عوضًا عن الخسائر التي كان يفترض أن يتحمّلها أصحاب المصارف اللبنانيّة.

أخطر ما في مسألة الصندوق السيادي، هو المقاربة التي يعتمدها للتعامل مع خسائر الانهيار. فكما هو معلوم، تحمّلت الغالبيّة الساحقة من المقيمين في لبنان أشكالا مختلفة من الخسائر، سواء تلك التي تتصل بتراجع قيمة المدخرات والرواتب نتيجة تهاوي سعر صرف الليرة اللبنانيّة، أو تلك التي طاولت قيمة تعويضات نهاية الخدمة بالطريقة نفسها. كما تحمّل المقيمون خسائر وازنة نتيجة تراجع تغطية شبكات الحماية الاجتماعيّة، وصناديق التعاضد والضمان الصحّي.

وهكذا، وبدل أن تخصّص الدولة مواردها الماليّة للتعامل مع هذه الخسائر التي طاولت غالبيّة المقيمين من أصحاب الدخل المحدود، تقترح جمعيّة المصارف حصر عوائد استثمار المرافق والأصول العامّة لعشرات السنوات، لإنقاذ الرساميل المصرفيّة العائدة للحلقة الضيّقة الأثرى في المجتمع.
في الواقع، كان من الواضح أن ثمّة إشكاليّة أخرى تكمن في التسمية التي تم إطلاقها على المشروع، أي عبارة "الصندوق السيادي"، والتي تم اختيارها خصيصًا للتمكّن من تسويقه كفكرة ناجحة شبيهة بتجارب الصناديق السياديّة في دول أخرى.

الإشكاليّة الأساسيّة تكمن هنا في أن الصناديق السياديّة يتم تأسيسها في العادة لاحتواء فوائض المداخيل العامّة، كحال عوائد بيع النفط في الدول البتروليّة، وبهدف ادخارها لمصلحة الأجيال المقبلة.

أمّا في حالة الصندوق السيادي الذي تطرحه جمعيّة المصارف، فلا ينطوي المشروع على أي استثمار لفوائض في المداخيل العامّة، بل يقوم على انتزاع ما تبقى من مداخيل اعتياديّة تموّل نفقات الدولة المتعثّرة ماليًّا في الوقت الراهن.

في الوقت نفسه، لا يقوم مشروع جمعيّة المصارف على أي ادخار لمصلحة الأجيال المقبلة، كحال الصناديق السياديّة في الدول الأخرى. بل وعلى العكس تمامًا، يقوم هذا المشروع على حرمان الأجيال الحاضرة والمستقبليّة من المداخيل والثروات العامّة، في سبيل إطفاء خسائر الماضي، التي نتجت عن قرارات المصارف الاستثماريّة الخاطئة.

بمعنى آخر، لم تستهدف الفكرة القيام بالأدوار التي يُفترض أن تقوم بها الصناديق السياديّة في العادة، بل حملت الأدوار النقيضة تمامًا لفكرة الصناديق السياديّة.

لم تقتصر خطورة هذه الفكرة على عدم عدالتها من ناحية توزيع الخسائر. فعمليًّا، وفي حال قرر المجلس النيابي تبنّي فكرة جمعيّة المصارف، وضمّها إلى خطّة التعافي المالي التي صاغتها الحكومة اللبنانيّة، من المرتقب أن يتعثّر مسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي، وأن يطيح تبنّي الفكرة احتمال دخول لبنان في برنامج قرض مع الصندوق.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

فصندوق النقد رفض في جميع جولات المحادثات التمهيديّة السابقة أي تبديد للأموال العامّة في سبيل إطفاء الخسائر المصرفيّة، باعتبار أن الصندوق لا يمكن أن يقرض دولة متعثّرة تنفق ما تبقى من مداخيلها لإنقاذ قطاع خاص هو القطاع المصرفي. وفي حال تعثّر مسار التفاهم مع الصندوق، فسيكون لبنان قد أطاح آخر رهاناته للخروج من الأزمة الماليّة.

في كل الحالات، وبمعزل عن شروط صندوق النقد، يبقى أسوأ ما في فكرة الصندوق السيادي إمعانها في تركيز الثروة بيد القلّة، عبر حصر عوائد نسبة ضخمة من المرافق والأصول العامّة، واستعمالها لإنقاذ الرساميل المصرفيّة، فيما سيسدد الكلفة النهائيّة لهذه العمليّة عموم المقيمين، من خلال رسوم استعمال هذه المرافق العامّة.

وهكذا، وبعدما تهاوت قيمة أجور محدودي الدخل في البلاد، ستمعن هذه العمليّة في توسيع الفوارق الطبقيّة بين المقيمين لعقود من الزمن، بينما ستُحرم الدولة اللبنانيّة من المداخيل القادرة على توفير شبكات الحماية الاجتماعيّة للفقراء.

المساهمون