تشهد أعمال المقاولات والسوق العقاري في مصر، حالة من الجمود التام، بعد فشل اجتماعات ممثلي الحكومة واتحاد التشييد وجمعيات رجال الأعمال وشركات الاستشارات الهندسية، التي عقدت الأسبوع الماضي، في التوصل إلى نتائج واضحة، تعيد الحياة إلى قطاع يهيمن على 90 مهنة وصناعة في أنحاء البلاد.
استقبلت وزارتا المالية والإسكان، طلبات قيادات قطاع التشييد والتطوير العقاري، التي رفعتها للحكومة قبيل إجازة عيد الفطر، لبحث تداعيات زيادة الدولار، وأسعار الفائدة على الجنيه المصري، والحرب الروسية في أوكرانيا، بما أدى إلى تضاعف أسعار مواد البناء، وتحقيق خسائر فادحة بشركات القطاع.
عقد عاصم الجزار، وزير الإسكان، عدة اجتماعات في مكتبه عقب إجازة العيد، مع ممثلي اتحاد التشييد والبناء وجمعيات رجال الأعمال وشركات للاستشارات الهندسية، لمناقشة طلبات المقاولين والمطورين، بعد أن توقفت جميع الأعمال في شركات المقاولات المسند إليها المشروعات الكبرى للدولة، كالطرق والكباري والإسكان التعاوني ومحطات المياه والصرف وتطوير القرى.
وناقش الوزير تأثير الأزمة على شركات المقاولات والمطورين في القطاعين العام والخاص، لا سيما مقاولي الباطن الذين حصلوا على حق التنفيذ للمشروعات، من دون أن يحصلوا على حقوقهم المادية.
أزمة مالية خطيرة
كشفت المناقشات، عن تعرّض المقاولين والشركات لأزمة مالية خطيرة، أجبرتهم على التوقف تماما عن العمل، بعد أن بلغ متوسط نسبة الزيادة في تكاليف الأعمال 50% الشهر الماضي، بما يفوق قدرات الشركات على تحمل تلك الزيادة، من دون تدخّل الدولة.
أوضح المقاولون، أن المشروعات الكبرى التي ينفذونها، على فترات زمنية طويلة، لا تحقق أكثر من 50% من العوائد للشركات، بينما تصل أقصى الاحتياطات في العقود، إمكانية زيادة الأسعار في مدخلات الإنتاج، بما لا يزيد عن 25%، وفقا للعقود المبرمة مع الجهات الحكومية والعامة.
وشدد المقاولون، على أنهم في حاجة إلى صدور قرارات سيادية تنقذ أعمالهم من التوقف، الذي بدأ منذ شهر، وتخرجهم من حالة الشلل الذي أصيبت به الأسواق، والمهن المرتبطة بقطاع يمثل قاطرة الاقتصاد، ويمثل 60% من حجم الناتج القومي.
نضوب الأموال من الشركات
طالب المقاولون الحكومة، بسرعة تدبير السيولة المالية، لاستكمال الأعمال المتوقفة، بعد أن نضبت الأموال من الشركات التي حاولت تدبير خامات الإنتاج، وفقا للأسعار الجديدة في الأسواق.
وأكدوا أن السبب الرئيسي في توقّف مشروعات الكباري والمرافق الحيوية، هو اختفاء الحديد الموافق لكود الخرسانة المسلحة لدى التجار، بينما توقفت المصانع المحلية عن إنتاج الحديد المتوافق مع تلك المواصفات، إذ تطرح نوعية من الإنتاج لا تكفي لطلبات الشركات أو مخصصة للتصدير، لا يسمح بتداولها في السوق المحلية.
وتستهلك مصر نحو 8 ملايين طن من حديد التسليح وتستورد 3.5 ملايين طن بليت (خام الحديد) سنوياً. أكد المقاولون أن حالة الغلاء في الأسعار مفزعة، وغير مبررة في أغلبها، حيث تمثل قيمة الواردات من الخارج نحو 10% من مكونات القطاع.
وحذر المستثمرون من تباطؤ الحكومة في حل المشاكل، التي رفعوها لمجلس الوزراء، عقب تنفيذ قرارات البنك المركزي، بنظام الاستيراد من الخارج، وخفض قيمة الجنيه بنحو 17% منذ نهاية مارس/آذار الماضي، والتي أصابت قطاع المقاولات والعقار بصدمة، مع زيادة أسعار مدخلات الإنتاج، بما أجبر المقاولين والمطورين على زيادة الأسعار، بنسب بدأت بنحو 15%، وارتفعت إلى 30% في شهر واحد.
رصدت "العربي الجديد" حالة الهلع التي أصابت نشاط المقاولات، بعد إعلان وزير المالية محمد معيط، الأربعاء الماضي، عن تسهيلات جمركية على الواردات، للسيطرة على ارتفاع الأسعار، تجاهل فيها واردات قطاع التشييد والبناء.
وأشار أحد أعضاء غرفة التطوير العقاري في اتحاد الصناعات، فضّل عدم ذكر اسمه، إلى أن السوق مرشح لزيادة جديدة في أسعار مدخلات الإنتاج، في حالة تطبيق الزيادة المتوقعة في الدولار، وخفض قيمة الجنيه، بما يؤدي إلى زيادة تدهور أوضاع الشركات التي أصبحت تعمل في حالة من عدم اليقين، حيث لا تملك أية جهة رؤية لتوقّع الأسعار، خلال الفترة المقبلة، ولا تستطيع التنبؤ بزوال الأسباب المؤدية إليها، وخاصة الحرب في أوكرانيا.
ضربة جديدة للسوق العقاري
وقال المصدر إن الضربة الجديدة للسوق العقاري، تأتي مع بداية الموسم الصيفي الذي تنظره الشركات، لينشط حركة المبيعات المدفوعة بقوة الشراء من المصريين العائدين من الخارج، والتي تعطلت موسم 2021 بسبب وباء كورونا، حيث تمثل عوائد المصريين الناتج الأعلى في الدخل القومي، بمبلغ 31.5 مليار دولار، ينتظر زيادتها بنسبة 8% العام الحالي، وفقا لتقديرات الخبراء.
ويؤكد الخبراء، أن حالة عدم اليقين التي أصابت المقاولين والمستثمرين، مع تباطؤ الحلول الحكومية لمواجهة الأزمة، دفعت كل شركة إلى تحديد الزيادة في أسعار العقارات وفق أهوائها، وقدرتها على تحمّل الصدمات المالية، وسداد القروض التي تحصلت عليها من البنوك، أو التزمت بسدادها للشركات المنفذة لمشروعاتها.
يؤكد خبراء أن منحنى الهبوط في أزمة شركات المقاولات والمطورين العقاريين، مازال يتجه إلى الأسفل، من دون أن يصل إلى القاع، ولن تبدأ مرحلة الصعود من دون أن تنقشع غمامة الحرب، وتضع الدولة سياسات عاجلة لإنقاذ الشركات التي تصنع أو تورّد مدخلات الإنتاج للقطاع برمته.
يؤكد إسلام الحبال، استشاري إنشائي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، ضرورة التزام الحكومة بإعادة تسعير مشروعات المقاولات، التي تنفذ حاليا، ليستعيد السوق نشاطه، ووضع مدخلات الإنتاج المستوردة ضمن قائمة الأولويات للبنك المركزي، لا سيما أن نسبتها قليلة في حجم المشروعات، بينما تعطل غيرها من الأعمال في حالة عدم توافرها.
ويضرب الحبال مثلا بالمواد الكيماوية التي تحتاجها مشروعات الكباري، وأسياخ الحديد ذات الأقطار غير المنتجة في مصر، بالإضافة إلى تشجيع بدائل الحديد التي تستخدم في بناء المسطحات الخرسانية، حيث يمكن انتاجها محليا، بما يوفر الضغط على العملة الصعبة.
ويشرح الاستشاري الهندسي أن بدائل بوليميرات الكربون الزجاج FRP، تعطل إنتاجها في المصنع الوحيد محلياً، بعد نشوب حرب أوكرانيا، واعتماده كبديل للحديد، في البناء من المركز القومي لبحوث الإنتاج، بضوابط متشددة للغاية، رغم قدرة السيخ منه على تحمّل 3 أضعاف سيخ الحديد.
ويشير إلى ضرورة مراقبة الحكومة أسعار مدخلات خامات الحديد والإسمنت، والمواد المستخدمة في البناء، منوها إلى أن مجرد عرض الموضوع للمناقشة، أدى إلى خفض فوري في سعر الحديد، بنحو 1000 جنيه للطن، دفعة واحدة نهاية الأسبوع الماضي.
ورفعت شركات الحديد المحلية سعر طن الحديد بمتوسط 45%، في مارس/آذار الماضي، من 15.4 ألف جنيه، ليتجاوز 22 ألف جنيه، قبل أن يتراجع أخيراً ويستقر عند 19.1 ألف جنيه للطن، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة.
شركات الجيش تسيطر على 50% من إنتاج الإسمنت
ويرى خبراء أن سعر الإسمنت ارتفع بنسبة 80%، بطريقة غير مبررة، خاصة أن شركات الجيش تسيطر على 50% من القدرة الإنتاجية بالمصانع المحلية، وتمنع الحكومة تشغيل المصانع القائمة، بنسبة تزيد عن 90% من قدراتها التشغيلية.
كما ارتفعت أسعار كيماويات البناء بنسبة تصل إلى 50%، وزادت أسعار الزجاج بنسبة 19.5%، والأخشاب 10.9% في مارس/آذار مقارنة بشهر فبراير/شباط.
يحذر الخبراء من لجوء الحكومة إلى زيادة أسعار الفائدة على الجنيه المصري، التي ارتفعت إلى 18% الشهر الماضي، بما أدى إلى جذبها 600 مليار جنيه كودائع، بما أوقف حركة البيع والشراء، في السوق العقاري.
ويعرب مطورون عقاريون عن مخاوفهم من مواصلة البنك المركزي رفع أسعار الفائدة، لتصل إلى 20%، وفق توقعات محللين، ما يزيد الأمر تعقيداً، حيث دخلت بعض الشركات العقارية في مزايدة مع البنوك، وطرحت سندات عقارية بفائدة 20%، عند شراء وحدات عقارية بالمخالفة للقانون، واتجه بعض المصريين من ذوي الملاءات إلى الشراء والبيع، في سوق دبي العقاري، باعتباره الأكثر استقرارا وضماناً من السوق المصرية، في الوقت الحالي.
ورفض قطاع التشييد توجه الحكومة لإلغاء بعض المشروعات القومية الكبرى، مشيرين إلى أنها ستوجه ضربة جديدة للاستثمار العقاري وقطاع التشييد. وكان أحد النواب المقربين للسلطة، قد طالبها بوضع أولوية لتوفير الغذاء للمواطنين، بما اعتبره المستثمرون العقاريون دعوة لوقف العمل، في بناء 20 مدينة جديدة ومشروعات الطرق والمساكن المقررة بها، بما يدخل قطاع البناء في مرحلة الركود، بعد أن أصيب بتضخم كبير في أسعاره.
تدهور الجنيه المصري
وقال عضو في جمعية رجال الأعمال، إن الحكومة لم تنظر حتى الآن في طلباتهم، التي رفعها فتح الله فوزي رئيس لجنة التشييد في الجمعية، للحكومة مراراً، لتلافي الآثار الخطيرة التي أحدثها تدهور الجنيه المصري بنسبة 60%، مع إجراءات التعويم الأولي عام 2016، مضيفا أن تجاهل مشاكلهم في هذه المرحلة يعني عدم استقرار صناعة التشييد والبناء خلال العام الحالي، مع استمرار النظرة التشاؤمية إلى منتصف عام 2023.
وتواجه مصر صعوبات اقتصادية ومالية واسعة بسبب تضررها من الحرب الروسية في أوكرانيا. وتجري الحكومة محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد يصل إلى 3.5 مليارات دولار، لسد جزء من احتياجاتها التمويلية التي تصل خلال العام المالي 2022/2023 الذي يبدأ في الأول من يوليو/تموز المقبل إلى نحو 1.5 تريليون جنيه (81 مليار دولار.
وكانت مصر قد حصلت على أكثر من 20 مليار دولار منذ نهاية عام 2016، مقابل تنفيذ اشتراطات دفع ثمنها الفقراء ومتوسطو الدخل، بعد رفع الحكومة أسعار الكهرباء والغاز والسلع الأساسية، وفرضت المزيد من الضرائب على الاستهلاك، في إطار تقليص الدعم وزيادة العائدات الجبائية.
ويواصل الدين الخارجي ارتفاعه إلى مستويات غير مسبوقة ليبلغ نحو 145.5 مليار دولار في بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2021. وحذّرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في إبريل/نيسان الماضي، من تدهور اقتصاد مصر، معتبرة أنّ البلد بحاجة إلى مواصلة الإصلاحات مع الصندوق.