تبدو الحكومة المصرية سعيدة ببدء تنفيذ برنامجها الثالث مع صندوق النقد الدولي، الذي منحها قبلة الحياة، في مواجهة أزمة معيشية ومالية خانقة. السعادة لا يبررها واقع مؤلم أحيط بالناس، من تراجع في قيمة الجنيه المصري، ومزيد من الارتفاع في الأسعار، وتفاقم أزمة ديون ارتفعت بقيمة قرض جديد من الصندوق قيمته ثلاثة مليارات دولار.
لن تحصل الحكومة إلا على 700 مليون نقدا على قسطين، والباقي سيوضع في حساب الصندوق لضمان سداد أقساط ديون مستحقة له، بلغت 25 مليار دولار.
عندما تقرأ التقرير التفصيلي الذي وضعه صندوق النقد الدولي عن مصر، ستجد أن الحكومة ترجت إدارته، ووافقت على شروط غريبة، تعيد للذاكرة، ما كان يهفو إليه الخديوي إسماعيل مع الدول الدائنة، التي أوقعته في فخ الديون، حتى هيمنت على ثروات الأمة، وسرعان ما سقطت الدولة المصرية، تحت قبضة صندوق الدين، ثم تصفية أملاك الأمة ببيعها للأجانب، وانتهى الأمر بالاحتلال البريطاني.
يحدد الصندوق في تقريره الواقع في 107 صفحات، التزامات (شروطاً)، هذه الشروط ليست خاصة أو مرتبطة بالحكومة، ولكن على الدولة، فهم لا يهتمون بالحاكم ولا الحكومة، بعد إقرارها بالاتفاق وتوقيع البرلمان الآلي على ما يريدونه، ففي النهاية سيدفع الشعب ويتحمل أعباء تلك الشروط.
يحدد الصندوق خمسة التزامات أساسية، نظام مرن لسعر الصرف لا يتدخل البنك المركزي في إدارته، مستثنيا ذلك عند الكوارث الكبرى بالتشاور أولا مع إدارة الصندوق وموافقته على التدخل. وتلتزم الحكومة بضبط أوضاع المالية العامة، مع مراقبة الصندوق للإيرادات والمصروفات، ومعاملات الديون لضمان سداد الدين واتجاه الدين العام لمسار تنازلي. ويطلب الصندوق" إصلاحات" هيكلية واسعة النطاق، للحد من بصمة الدولة وتعزيز الحكومة والشفافية، بما يضمن بيع الأصول العامة، التي ستساهم في سداد ديون الصندوق والشركاء الدوليين الذين يساعدونه في تنفيذ برنامجه حاليا، والتي ستصل إلى 200 مليار دولار نهاية العام.
ألغى الصندوق دعم سعر الفائدة الموجه للقطاعات الإنتاجية، من البنك المركزي، معتبرا إياه تشوها ماليا، رغم أن الموازنة العامة تتحمل فروق الفائدة، مقابل ضمان تشغيل المصانع والمزارع وحماية المشروعات الصغيرة. عند طلبه تعزيز شبكة الضمان الاجتماعي لحماية الفقراء، حدد أعدادهم، بخمسين مليونا، وخصص لهم 153 مليار حتى نهاية عام 2023، رغم أن برامج الدعم السلعي يستهدف حاليا 62 مليون شخص، فاقت ميزانيتهم 350 مليار جنيه، مع ملاحظة تراجع القوة الشرائية لتلك المبالغ، مع زيادة أسعار السلع التموينية.
تهليل الحكومة بالاتفاق، وإسراعها نحو بيع الأصول وثروات الشعب، للأطراف الدولية التي حددها الصندوق، استدعت العودة إلى ما سجله المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي، عن الأزمة المالية المشابهة للحالة المصرية الآن، والتي وقعت في عهد الخديوي إسماعيل.
لم يستطع الرافعي المحب للعائلة العلوية، والمعجب بالأعمال العظيمة التي شيدها إسماعيل أن يعيد كتابة تاريخ تلك الفترة باعتباره شاهدا على عصرها، ومشاركا بها وزيراً للعدل، ليسجل الأخطاء التي وقعها بها الخديوي، واعتبر الديون الثقب الأسود الذي دخل منه الاستعمار.
يذكر "الرافعي" بالجزء الأول من مذكرات "عصر إسماعيل" صفحة 11، "في عهد إسماعيل حدثت نهضة زاهرة، يزدان بها تاريخه، ولكن هذه النهضة تعثرت في سيرها لما شابها من إسراف الخديوي وبذخه، وركونه إلى الأوروبيين، وشديد ثقته بهم، واعتماده عليهم، فأدت هذه العوامل مجتمعة إلى تورطه في القروض الباهظة التي ناءت البلاد بحملها، من حيث لم تكن في حاجة إليها، فكانت الذريعة التي توسلت بها الدولة الأجنبية، لتعبث بحقوق مصر الخالدة، فوقع في هذا العبث، وتعددت مظاهره، فمن إنشاء صندوق الدين، إلى فرض الرقابة الثنائية على مالية مصر، إلى تأليف لجنة تحقيق أجنبية، لفحص شؤون الحكومة المالية، إلى تعيين وزيرين أوربيين في الوزارة المصرية، إلى تغلغل نفوذ الأجانب عامة في مرافق البلاد، فهذه الأحداث الجسام قد تصدع لها صَرح الاستقلال الذي نالته مصر بجهودها وتضحياتها العظيمة من عهد محمد على".
يسجل المؤرخ الكبير كيف تحولت الامتيازات الأجنبية إلى شوكة، في قلب الدولة، عندما ضعف شأن الحكومة وطغت سلطة الأجانب على سيادة الحكومة، "وبدأ طغيانهم في عهد سعيد ثم ازداد في عهد إسماعيل وفي خلال هذه الأطوار نالوا المزايا الآتية التي اغتصبوها بالعرف والعادة".
انتزع القناصل سلطة الحكم، فيما يقترف رعاياهم من الجرائم التي تقع على المواطنين، واضطر الأهالي عندما يقاضون الأجانب أن يرفعوا دعاواهم أمام محاكمهم القنصلية، واغتصبت المحاكم القنصلية سلطة الفصل حتى في القضايا التي يرفعها رعاياها على المواطنين، لدرجة أن القاضي الهولندي Van Bemmelen، الذي تولى قضاء المحاكم المختلطة في عهد إسماعيل، اعتبرها سلسلة من الاغتصاب في قوله عنها "إن الأوروبيين يعبرون عن الاختصاص المختلط للقنصليات بأنه نشأ عن العرف، وفي الحقيقة إنه وليد الاغتصاب الواقع من الأقوياء على حقوق الضعفاء".
يعترف "الرافعي" بأن عهد إسماعيل عصر تقدم ونهضة، مع اعتنائه بالجيش والتعليم، والعمران، ولكن ذلك ضاع كله، مع البذخ والولع ببناء القصور من أموال الدولة، حتى أفلست. لم يتمكن أحرار مصر من إنقاذ الدولة، وبعد اتفاقهم على مواجهة امتيازات الأجانب، دفعتهم المصالح إلى الانقسام، بما أفشل الثورة العرابية، ومن بعدها جهود الخديوي عباس حلمي، لتشكيل جبهة وطنية لمحاربة الإنكليز.
مذكرات " الرافعي" تنشط ذاكرة الأمة، على أمور لا يدركها كثير ممن وقعوا على اتفاقهم مع الصندوق، رغم المخاطر التي يذكرها خبراؤه. يتوقع الصندوق اختلالا أكبر في سعر الصرف، وضغوطا تضخمية مطولة، يمكن أن تقوض التماسك الاجتماعي، وتثير اضطرابات سياسية، بما لهذه الشروط من آثار مستمرة على زيادة الأسعار وتراجع العملة. يشير الصندوق إلى إمكانية انخفاض النمو، وصعوبة حصول السكان على الدعم الصحي لمواجهة وبائية جديدة من عدوى كورونا لنقص التمويل وانخفاض مخزون البلاد من التطعيمات.
يسير النظام في موكب الصندوق فرحا وطربا، وهو يدفع الدولة إلى المزيد من القروض، لاستكمال قصور فارهة ومشروعات لا عائد منها، بينما الشعب يتحسر على يومه ويخشى غده، دون قدرته على تغيير يساق إليه، كما يساق المرء إلى الموت. يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عالم الاجتماع السياسي: "عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس أمة يصبح الفرد غير قادر على التضحية وينصرف ليبحث عن مصلحته الشخصية". هذا ما حدث بعد صندوق الدين، وما يحدث حاليا بعد اتفاق صندوق النقد.