منذ مطلع العام الجاري، وأنباء مباحثات صندوق النقد الدولي مع عدد من الدول بشأن القروض المفترض منحها لعدد من الدول النامية خاصة في المنطقة العربية، لم تنقطع، ليتابع العالم جولات من المباحثات بين الصندوق ومسؤولي تلك الدول حول الاجتماعات المشتركة للبحث في مسألة الإصلاحات التي يفرضها الصندوق، وبرامج الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها تلك الدول، والتي غالباً ما تواجه اعتراضاً من قبل الصندوق، ليبدأ الصندوق بدوره ممارسة ضغوطه لفرض برامجه الإصلاحية على الدول المعنية بالقروض.
ويأتي في مقدمة الدول التي تسعى للحصول على قروض من الصندوق والبنك الدوليين، تونس ومصر ولبنان وباكستان، التي تعد من أبرز الدول التي شهدت جولات واجتماعات مكثفة بين مسؤولي المالية في تلك الدول، والصندوق.
أبرز الجولات وأحدثها، ما يدور حالياً في مصر، التي رفضت شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة هي في أمسّ الحاجة لها لاستيراد مواد أساسية ودفع أقساط الديون المتراكمة، فهل وراء الرفض مناورة أم توفر بدائل فعلية عن طريق جهات أخرى مثل "بريكس"؟
وفي خطوة نادرة تدل على رفض مصري لمطالب صندوق النقد الدولي استبعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تخفيض قيمة الجنيه مجدداً، وقال السيسي خلال مؤتمر للشباب، في يونيو/ حزيران 2023، إنّ خطوة كهذه تضر بالأمن القومي والمصريين.
نقص الدولار
وتعاني مصر من نقص حاد في الدولار للوفاء بالتزامات الدولة الأساسية مثل استيراد مواد غذائية وأدوية وتوفير مستلزمات زراعية وصناعية وخدمة الديون المتراكمة. ويزداد هذا النقص حدة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار وتراجع سعر الجنيه، إضافة إلى استمرار أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية المستوردة.
ومن أجل الحد من هذا النقص وتبعاته المتمثلة في ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة الفقر والعجز عن خدمة المديونية والانهيار المالي، تفاوضت مصر مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد أو ما يسمى حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار.
ورغم أنّ الحكومة المصرية وقعت، منذ أواخر العام الماضي، على اتفاق بهذا الخصوص، فإنها لم تحصل على أية دفعات من الحزمة المالية حتى الآن بسبب تأخير الحكومة تنفيذ شروط صندوق النقد؛ وعلى رأسها خصخصة عشرات المؤسسات التابعة للدولة، وتخفيض قيمة الجنيه مجدداً من خلال ترك العرض والطلب يحددان سعره.
الجدير ذكره أنّ قيمة الجنيه تم تخفيضها بنسبة 50%على الأقل، منذ فبراير/شباط 2022 بعدما أدى اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى خروج استثمارات أجنبية بقيمة 20 مليار دولار من الأسواق المالية المصرية.
وينعكس ارتفاع سعر الفائدة على الدولار سلباً على قيمة الجنيه المصري وعلى مستوى حياة المصرييين، وأدى هذا التخفيض إلى تراجع سعر العملة المصرية الرسمي إلى نحو 31 جنيهاً مقابل 40 جنيهاً تقريباً للدولار الواحد في السوق السوداء. ما يعنيه ذلك المزيد من تدهور القوة الشرائية لغالبية المصريين الساحقة التي توفر موادها الغذائية الأساسية أو جزءا كبيرا منها بالاعتماد على دخل محدود للغاية أو على استمرار إعانات الدولة ودعمها لبعض السلع.
تعثر المحادثات
وفي تونس، تعثرت المحادثات مع الصندوق بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، منذ أكتوبر/ تشرين الأول، عندما توصلت تونس وصندوق النقد إلى اتفاق على مستوى الخبراء بعد أن رفض الرئيس التونسي قيس سعيّد بشكل قاطع فكرة خفض الدعم وبيع شركات مملوكة للدولة، وقالت الرئاسة في حينها إن سعيد أبلغ مديرة الصندوق كريستالينا جورجييفا، خلال اجتماع في باريس، بأنّ شروط الصندوق لتقديم الدعم المالي للدولة الواقعة في شمال أفريقيا تهدد بإثارة اضطرابات اجتماعية في البلد.
وأكد أنّ أي خفض مطلوب في الدعم، خاصة الطاقة والغذاء، يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة، مذكراً بالاحتجاجات الدامية التي هزت تونس عام 1983 بعد أن رفعت الحكومة آنذاك سعر الخبز.
وتجب الإشارة إلى أنّ معظم ديون تونس محلية، فضلاً عن مدفوعات قروض خارجية مستحقة في وقت لاحق من هذا العام، توقعت وكالات للتصنيف الائتماني أن تتخلف تونس عن سدادها.
وقامت فرضيات إعداد موازنة تونس لهذا العام على تسعير برميل النفط (خام برنت) عند مستوى 89 دولاراً، والحال أن معدل الأسعار العالمية حالياً لم يتجاوز 74 دولاراً ما يعني أنّ تونس في مأمن في هذه المسألة على رغم أنّ الميزان التجاري في مجال الطاقة لا يزال يشكو عجزاً لافتاً.
اتفاق الخبراء
وكانت المفاوضات بين تونس وصندوق النقد توصلت إلى اتفاق على مستوى الخبراء منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، بخصوص القرض الممدد، لكن في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، سحب المجلس التنفيذي لصندوق لنقد الدولي اتفاقه على خلفية عدم تعهد تونس بجملة الإصلاحات الاقتصادية.
وهناك العديد من الأمور قد تغيرت منذ توقيع اتفاق الخبراء، الأمر الذي يفرض إجراء تعديل أو تنقيح على الخطة الإصلاحية لتونس واقتراح إعادة صياغة اتفاق جديد مع الصندوق، يتضمن إرجاء القيام برفع الدعم عن المحروقات، لا سيما أنّ الظرف العالمي الراهن في سوق الطاقة ساعد تونس نسبياً.
تونس بحاجة إلى مزيد من المساعدة إذا كانت تريد تجنب انهيار اقتصادي، وبدون خطة إنقاذ مالي، تواجه تونس أزمة شاملة في ميزان المدفوعات، فاقتصاد تونس يعاني من العديد من المشكلات الهيكلية والظرفية تعمق أكثر أزمة مالية جراء عدم توفق البلاد في الخروج على الأسواق المالية لتعبئة التمويلات الضرورية لتمويل الموازنة.
ولا شك أنّ الحكومة تتحرك في اتجاه إجراء العديد من الإصلاحات، ففي محور تحسين بيئة الأعمال، تعمل الحكومة حالياً على إقرار حزمة جديدة من الإجراءات من أجل تطوير مناخ الأعمال والاستثمار، خاصة عبر تقليص الإجراءات البيروقراطية. أما بالنسبة لمحور إصلاح الشركات العمومية، فقد صادقت الحكومة على تعديل جذري لقانون الشركات العمومية يرمي إلى مزيد من تعزيز جوانب الحوكمة وحسن التصرف في هذه الشركات.
ولحلحلة الإشكال القائم بين تونس وصندوق النقد الدولي، طالبت تونس بأن يقوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية بضمان تونس لدى النقد الدولي على غرار ما تم مع أوكرانيا التي حصلت على قروض بقيمة 15 مليار دولار.
تونس مطالبة هذا العام بتحصيل نحو 5 مليارات دولار في شكل تمويلات وقروض لتمويل موازنتها لهذه السنة، وتوافقت على تحصيل 1.5 مليار دولار وتبقى 3.5 مليار دولارات، وبإمكان الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس مساعدتها على تعبئة هذه التمويلات.
مفاوضات لبنانية
في لبنان يزداد الأمر تعقيداً، فعلى مدى ثلاث سنوات يتفاوض لبنان مع صندوق النقد الدولي، وخلال تلك الفترة عُقدت اجتماعات عدّة بين فريق التفاوض اللبناني ووفد الصندوق، وعملياً لا تزال عملية التفاوض بين لبنان وصندوق النقد في مكانها منذ أكثر من عامين، فالاجتماعات التي عُقدت مع الصندوق لم تنجز شيئاً، وفي المقابل لم يخطُ لبنان الخطوات التي يجب أن يخطوها سواء تلك التي طلبها الصندوق أم غيرها.
وقد حذر صندوق النقد الدولي من أنّ لبنان بحاجة إلى تحرك عاجل لتنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة، تجنباً لعواقب يتعذر إصلاحها، وخلص خبراء الصندوق إلى الحاجة لإصلاحات لأنهاء الأزمة الشديدة التي يواجهها الاقتصاد، وتجنب عواقبها، خاصة على الفقراء والطبقة الوسطى.
ولا يزال الصندوق منخرطاً مع لبنان ومستعداً لدعمه، وتعهّد الصندوق في إبريل/ نيسان 2022 بالإفراج عن قرض بقيمة 3 مليارات دولار على مدى أربع سنوات، كخطوة أولى نحو تجديد الثقة مقابل تنفيذ سلسلة من الإصلاحات التي لم تنفذ حتى الآن، وهو ما ترتب عليه تجميد القرض.
وبخلاف قروض الصندوق، يحتاج لبنان إلى دعم مالي قوي من المجتمع الدولي لتغطية الاحتياجات المالية الكبيرة جداً التي سيواجهها في السنوات المقبلة، ومن الضروري أن يحصل لبنان على دعم سياسي، لتنفيذ الإصلاحات التي اتفق عليها مع خبراء صندوق النقد في إبريل 2020.
ويعاني لبنان منذ 3 سنوات أزمة اقتصادية طاحنة غير مسبوقة، مع انهيار قيمة العملة المحلية (الليرة) مقابل الدولار، وشح في الوقود والأدوية، إلى جانب تراجع حاد في قدرة المواطنين الشرائية. وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، لتلقي بمعظم السكان إلى براثن الفقر.
موازنة باكستان
على الجانب الآخر، أجرت باكستان تغييرات مهمة على موازنة السنة المالية المقبلة لتهدئة مخاوف صندوق النقد الدولي بشأن الضرائب، وهو ما أكده وزير المالية إسحاق دار أمام البرلمان أخيراً، حيث قال إنّ بلاده تخطط لفرض ضرائب جديدة وزيادة العائدات بواقع 215 مليار روبية (740 مليون دولار) إلى 9.4 تريليونات روبية، فضلاً عن مساعي بلاده لخفض النفقات بواقع 85 مليار روبية في الميزانية التي تم تمريرها أخيراً من قبل السلطة التشريعية.
وطرحت حكومة رئيس الوزراء شهباز شريف، في وقت سابق، خطة الإنفاق السنوية التي تهدف إلى تحقيق التوازن بين تعزيز النمو الاقتصادي والشروط الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي لإحياء برنامج الإنقاذ الذي تبلغ قيمته 6.7 مليارات دولار.
ويُشار إلى أنّ باكستان تتفاوض مع صندوق النقد الدولي، منذ نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، للإفراج عن 1.1 مليار دولار من حزمة الإنقاذ البالغة 6.5 مليارات دولار المتفق عليها عام 2019. ولفتح التمويل، خفضت الحكومة الإعانات، وألغت سقفاً مصطنعاً لسعر الصرف، إضافة إلى رفع أسعار الوقود.
وقد رفعت الدولة سقف ضريبة الوقود إلى 60 روبية للتر، بعد أن كان 50 روبية للتر، وهو مقياس رئيسي للإيرادات بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي. كما ألغت السلطات القيود المفروضة على الواردات في اليوم السابق. وتواجه الدولة الواقعة في جنوب آسيا أزمة مالية وتضخماً قياسياً وعملة ضعفت بحوالي 30% في غضون عام وواردات احتياطيات نقد أجنبي هوت إلى حوالي شهر واحد فقط.
ونهاية يونيو/ حزيران، توصل صندوق النقد الدولي إلى اتفاق مبدئي مع باكستان للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار. وجاء اتفاق بعد تأخر دام 8 أشهر بسبب تعطل المفاوضات بين الجانبين. ويساعد الاتفاق باكستان، التي تتأرجح على شفا التخلف عن السداد، في تخفيف مؤقت لديونها الخارجية البالغة 205 مليارات دولار.