شركة تأمين لديها جيش

16 اغسطس 2023
الحكومة تعد برامج لحماية الأفراد من المخاطر المالية (فرانس برس)
+ الخط -

يصف كثير من الأميركيين حكومتهم بأنها "شركة تأمين لديها جيش"، في دلالة على الدور الكبير الذي تلعبه الحكومة الأميركية في تقديم التأمين الاجتماعي، والحفاظ على الأمن القومي للمواطنين.
توفر الحكومة الأميركية أكبر برامج التأمين الاجتماعي في البلاد، وفي مقدمتها برنامجا الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية (ميديكير)، اللذان يوفران دخلاً تقاعدياً معقولاً وتأميناً صحياً لملايين الأميركيين. وتنفق الولايات المتحدة مبالغ ضخمة على هذين البندين، حيث يتجاوز الإنفاق على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية 2 تريليون دولار سنوياً، بينما يقترب الإنفاق الدفاعي السنوي من 800 مليار دولار، وهذا بخلاف المبالغ المخصصة لمنح امتيازات المحاربين القدامى، وأمن الوطن.
تقول بعض مراكز الأبحاث الأميركية إنه عند جمع كل أوجه الإنفاق على التأمين الاجتماعي والأمن القومي، فإن المحصلة تقترب من ثلثي الميزانية الحكومية الفيدرالية، وإن هذا هو السبب في ظهور استعارة "شركة تأمين لديها جيش"، كونها تقدم تأميناً ضد مخاطر الشيخوخة والمرض والبطالة، وتحمي البلاد من التهديدات الخارجية.
وبالتأكيد تقوم الحكومة الأميركية بأكثر من تقديم التأمين والأمن القومي، فهي تبني طرقاً وجسوراً ومدارس؛ وتوفر التعليم والرعاية الصحية، وتنظم الاقتصاد. ولكن هذه الوظائف الأخرى تتراجع أمام الإنفاق الحكومي على التأمين الاجتماعي والأمن القومي.

ورغم أن البعض يطلق هذا الوصف على الحكومة، باعتباره شيئاً سلبياً، فإن حقيقة الأمر تشير إلى أن الغرض منه ليس التقليل مما تفعله الحكومة الأميركية في مختلف الوظائف الأخرى، وإنما تُستخدم الاستعارة غالباً لتسليط الضوء على دور الحكومة في ضمان رفاهية وحماية المواطنين، وتوضيح أن الجانبين يمثلان أهم أدوار الحكومة الفيدرالية، وأيضاً حكومات الولايات. وفي كل الأحوال، فإن دور الحكومة كشركة تأمين ضروري لرفاهية مواطنيها، ودورها كجيش ضروري لأمان البلاد.
وتشير البيانات الحكومية إلى أن أهم البرامج التي يمكن اعتبارها نوعاً من التأمين، وتقدمها الحكومة للمواطنين، يأتي في مقدمتها برنامج الضمان الاجتماعي، وهو البرنامج الذي يوفر دخل التقاعد لمعظم الأميركيين.
أيضاً هناك برنامج ميديكير، الذي يوفر تأميناً صحياً لمن هم فوق سن 65 عاماً، وبرنامج ميديكايد، الذي يقدم تأميناً صحياً للأفراد من ذوي الدخل المنخفض.
وتقدم الحكومة أيضاً برنامج إعانات البطالة، الذي يوفر مساعدة مالية مؤقتة للأشخاص العاطلين عن العمل، وبرنامج تعويض العاملين، الذي يوفر منافع للعمال الذين يصابون بإصابات أثناء العمل، بالإضافة إلى برنامج تأمين العجز، الذي يوفر منافع للأشخاص الذين لا يستطيعون العمل بسبب إعاقة.
وجرى تصميم كل هذه البرامج لحماية الأفراد من المخاطر المالية للشيخوخة والمرض والبطالة والإعاقة، وهي مع بعضها تمثل جزءاً كبيراً من شبكة الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة.
تنفق الحكومة الأميركية أيضاً مبلغاً كبيراً من الأموال على الأمن القومي، وهذا يشمل الجيش، وامتيازات المحاربين القدامى، وأمن الوطن، حيث إن الجيش الأميركي مسؤول عن الدفاع عن البلاد من التهديدات الخارجية، رغم أنه يبقى بعيداً في كل الأحوال عن السياسة أو الحكم. وتوفر امتيازات المحاربين القدامى مساعدة مالية للمحاربين القدامى وعائلاتهم، بينما يحمي أمن الوطن البلاد من الإرهاب والتهديدات الأخرى.
وعلى الرغم من أن هذه الاستعارة الموجزة تجسد وظيفتي الحكومة الأساسيتين، فإنها تخفي التركيبة المعقدة من المهام والمسؤوليات التي تضطلع بها الحكومة الأميركية، التي تعد إلى حد كبير نموذجاً للحكومة الحديثة، ويسعى العديد من حكومات العالم لمحاكاته.

ويتجاوز دور الحكومة فكرة التأمين ضد مخاطر السن والتقاعد والبطالة والعجز، كما يتجاوز أمر الدفاع والحماية من الأخطار الخارجية، ليظهر في قضايا أخرى، تشمل تنمية الاقتصاد والرعاية الاجتماعية والثقافية، كونها تخطط لرسم لوحة متكاملة من الوظائف التي تسهم بصورة متكاملة في زيادة رفاهية المواطنين. وبعيداً عن أن تكون مجرد شركة تأمين، تعتبر الحكومة الأميركية قائداً للتقدم، ومخططاً للتطوير، ومنظماً للعدالة، ومروِّجاً للرخاء.
وخلافاً للدور الذي تلعبه شركة التأمين التقليدية، تستثمر الحكومة الأميركية في خلق رفاهية شاملة للمواطنين، بدءاً من الرعاية الصحية والتعليم إلى الضمان الاجتماعي، ما يعد التزاماً منها بتنمية جودة حياتهم.
تتجاوز الحكومة الأميركية بهذه المبادرات، وبحجم الإنفاق الموجه إليها، فكرة إدارة المخاطر، لتناقش جوهر كرامة الإنسان نفسه، من خلال تعزيز الوصول إلى الخدمات الأساسية. تعمل الحكومة طوال الوقت على توفير بيئة يمكن للأفراد أن ينجحوا ويزدهروا فيها، مما يعزز نسيج المجتمع.
ولا تتوقف الحكومة الأميركية عند الجانب الوقائي الذي تبرزه الاستعارة، ولكنها تقوم بدور كبير تحفيزاً للنمو والتنمية في البلاد، من خلال مشروعات البنية التحتية، والاستثمارات الحيوية التي تقوم بها، والتي شكلت العمود الفقري للتقدم الاقتصادي الأميركي، على مدار عقود.
تنشئ الحكومة الأميركية الطرق والجسور وشبكات الاتصال، التي تصبح فيما بعد ممرات يتدفق من خلالها الازدهار. ومن خلال تهيئة الظروف للابتكار والتوسع الاقتصادي، تظهر الحكومة محركاً للفرص، وخالقاً للثروات، ودافعاً للمواطنين للتعلم واكتساب المهارات والمنافسة والتفوق.
ومن ناحية أخرى، تضطلع الحكومة الأميركية بدور مهم في تعزيز القيم والمشاركة المدنية لدى المواطنين، ما يساعد على تنشئة وإعلاء قيم مثل الديمقراطية، والحرية، والمساواة أمام القانون لدى المواطنين.
ومع كل هذه الأدوار، وعلى مدار العصور، لم يفتخر رئيس أميركي بما جرى بناؤه من طرق وجسور، ولا ما جرى مده من خطوط كهرباء أو شبكات إنترنت، ولم يمن على أي من مواطنيه بسبب ما قدمته حكومته من إعانات بطالة أو مرض، ولا ما خلقته من فرص عمل، ولا المساعدات التي قدمتها للقطاع الخاص والشركات الناشئة.
وُجدت الحكومات لتساعد المواطنين، وتوفر لهم الحياة الآمنة، وتسعى لزيادة رفاهيتهم، وهذه هي مهمتها الأساسية. فلو لم تفلح في ذلك، وتسببت قراراتها في نتائج عكسية، فقدت صلاحيتها، ووجب عليها فوراً الانسحاب، وإفساح الطريق لغيرها.
كل من يحكمون العالم يعلمون ذلك جيداً، ولكن بعضهم يتعمد تجاهله، بل ويذهب بعضهم لتوهم أن رحيله سيمثل خراباً للبلاد، وكأنها لم تخرب بوجوده.

المساهمون