زراعة مصر (Getty)
19 يوليو 2021
+ الخط -

في هذا الشهر رفعت مصر والسودان وجامعة الدول العربية مجتمعة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن للمرة الثانية، وبغض الطرف عن رد الفعل الدولي داخل المجلس، سواء مؤيد أو معارض لموقف الدولتين، فقد انحصرت مطالبهم جميعا في مطلب وحيد وهو الضغط على إثيوبيا لتوقيع اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل السد.
الحكومة الإثيوبية ردت على المطالب العربية بأن بناء سد النهضة وصل إلى مرحلة لا يمكن معها التراجع، وأنه قد وصل إلى 80%، وأن تخزين نحو 18.4 مليار متر مكعب سيتم في موعده المقرر له خلال شهري يوليو وأغسطس، وذلك على لسان رئيس اللجنة الفنية الإثيوبية لمفاوضات سد النهضة ومستشار وزير المياه والري الإثيوبي جيديون أسفاو. ورغم التعنت الإثيوبي لم تتطرق مصر أو السودان إلى أهمية تقليل حجم السد البالغ 74 مليار متر مكعب وهي قضية غاية في الخطورة.
تصميم الحكومة الإثيوبية على زيادة حجم السد إلى 74 مليار متر مكعب ليس مصادفة. فهذا الحجم يساوي مجموع حصتي مصر والسودان من مياه النيل، وهي 55.5 مليارا لمصر و18.5 مليارا للسودان. وهو يساوي إيراد النيل الأزرق في سنة ونصف السنة عند خصم المياه المفقودة بالبخر وفي طبقات الأرض.

وبالتالي فإن زيادة الحجم على هذا النحو يغير وظيفة السد من توليد الكهرباء إلى تخزين المياه، ويحول النيل الأزرق إلى بحيرة إثيوبية داخلية وفق تعبير وزير الخارجية الإثيوبي، ما يعني التحكم الكامل في أمن مصر المائي كأخطر مكونات أمنها القومي، ويقضي تماما على مبدأ الحصص التاريخية القائم على مبدأ الاستهلاكات الحالية لمصر والسودان والذي تقره مبادئ القانون الدولي الخاصة بالمياه وأهمها اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة في سنة 1997.

تداعيات السد بحجم 74 مليار متر مكعب ستكون كارثية على دولتي المصب، وتأثيراته ستكون عنيفة وتهديدا وجوديا للحياة في الدولتين.

ومهما طالت سنوات الملء، بتوقيع اتفاق ملزم أو بسبب تعثر إثيوبيا في البناء، فلا يعني ذلك إلا تأجيل وقوع الكارثة ريثما يكتمل البناء.

ذلك أن ملء الخزان سوف يؤدي إلى تفريغ بحيرة السد العالي من المياه للأبد خلال 4 إلى 6 سنوات، ولن تتوفر فرصة لملئها مرة أخرى، وتحرم مصر من فوائدها في تعويض عجز المياه في سنوات الفيضان المنخفض وأثناء دورات الجفاف التي قد تصل إلى 7 سنوات، كما حدث في سنة 1980 حتى 1987.  

تصميم الحكومة الإثيوبية على زيادة حجم السد إلى 74 مليار متر مكعب ليس مصادفة. فهذا الحجم يساوي مجموع حصتي مصر والسودان من مياه النيل

كما أن انخفاض حصة مصر من المياه بمقدار 20 مليار متر مكعب سيؤدي إلى تبوير 4 ملايين فدان من الرقعة الزراعية، وفقدان 6 ملايين مزارع يعول عليهم 30 مليون مواطن كمنتجين لطعامهم، وخسارة 8.5 مليارات دولار من الإنتاج الزراعي، وزيادة الواردات الغذائية، التي وصلت إلى 15 مليار دولار العام الماضي، بمعدل 3 مليارات إضافية.
سيؤدي السد إلى توقف محطات مياه الشرب الواقعة على نهر النيل كما حدث في السودان أثناء الملء الأول السنة الماضية، وسيزيد تلوث مياه النهر والترع والمصارف والبحيرات الشمالية وسيقضي على الثروة السمكية، وتدخل مياه البحر تحت أراضي الدلتا ويزيد تملح الأراضي، وينزح السكان من الريف إلى المدن، وتزيد الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. وستضيع فرصة إعادة ملء بحيرة السد العالي مرة ثانية، وستتجاوز أضرار سد النهضة سنوات الملء إلى مراحل التشغيل.


فكرة سد النهضة بدأت بدراسة فنية قدمها مكتب الاستصلاح الأميركي لإثيوبيا في سنة 1964 لبناء سد مائي على مجرى النيل الأزرق في موقع سد النهضة بالقرب من الحدود السودانية الإثيوبية باسم "سد بوردر" أو السد الحدودي بسعة تخزين 11.1 مليار متر مكعب. وظل السد فكرة مجردة حتى سنة 2011 حيث أعلن رئيس الحكومة الإثيوبية الراحل، ميليس زيناوي، عن بناء السد وتغيير المسمى إلى "مشروع إكس" وزيادة سعة التخزين إلى 14 مليار متر مكعب.

لكن في نفس السنة أعلن زيناوي عن تغيير مسمى السد للمرة الثانية إلى "سد الألفية الإثيوبي العظيم" مع زيادة سعة الخزان إلى 17 مليار متر مكعب. وفي سنة 2012 أعلن للمرة الثالثة عن تغيير الاسم إلى "سد النهضة الإثيوبي العظيم" مع زيادة سعة الخزان للمرة الرابعة إلى 62 مليارا، ثم أعلن في نفس السنة عن زيادة حجم السد إلى 74 مليار متر مكعب.

ملء الخزان سوف يؤدي إلى تفريغ بحيرة السد العالي من المياه للأبد خلال 4 إلى 6 سنوات

جهات عديدة وخبراء شككوا في جدوى زيادة حجم سد النهضة، نكتفي هنا بذكر بعضها.

الأول: الخبير الإثيوبي ميهاري بيين، والذي نشر دراسة في 20 يوليو/تموز 2011، أثبت فيها أن سد النهضة حُدد له حجم مبالغ فيه. وأكد إمكانية تخفيض التكلفة الإجمالية للسد بنسبة تتراوح بين 40 و45% على الأقل لو تم بناء سد أصغر حجما وبكفاءة أعلى لتوليد نفس الكمية من الطاقة الكهرمائية.
وبينت الدراسة أن كفاءة سد النهضة الحالي في توليد الكهرباء لن تزيد عن 33% فقط، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالإنتاج العالمي لسدود الطاقة الكهرومائية والتي يبلغ متوسطها حوالي 55%. وخلصت الدراسة إلى أن سدا بحجم أقل بكثير مما هو عليه الآن وبارتفاع أقل سيكون أكثر كفاءة وأكثر جدوى من حيث التكلفة، ما يقلل الآثار الاقتصادية والبيئية في دولتي المصب، السودان ومصر.
الثاني، وهو الخبير الإثيوبي أصفاو بيين، أستاذ الهندسة الميكانيكية ومدير مركز الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة في جامعة ولاية سان دييغو الأميركية، والخبير في العديد من مؤسسات الطاقة في الولايات المتحدة، منها وزارة الطاقة الأميركية.

ونشر مقالا في سبتمبر سنة 2013 يجيب فيه عن سؤال، ما هي عواقب سد النهضة "المبالغ في حجمه"؟. فأجاب بقوله: إنه مثل شراء مبنى من 10 طوابق لسكن شخص واحد. يمكنك ملئه عدة مرات في العام عندما يكون لديك عدد كافٍ من الضيوف، ولكن لن يتم استخدام الغرف في معظم الأوقات. هذا يعني أنه سيكون من النادر استخدام أكثر من نصف التوربينات المركبة في جسم السد.
وقال أصفاو: إن كفاءة السد أو "معامل الحمل" المصمم لإنتاج 6000 ميغاوات سيكون حوالى 30%. ولكن لو تم تحديد "الحجم الصحيح" وهو 2000 ميغاوات، فإن عامل الحمل سيرتفع إلى 90%.

وأكد أن قضية حجم السد مسيسة إلى حد كبير، وأن السياسة تقمع الاعتبارات الهندسية والتداعيات البيئية للسد. كما أن تخطيط السد بحيث يعمل عند أقصى معدل تدفق للنهر أو قريب منه يعني غياب الحس الاقتصادي في السد.

واقترح على الحكومة الإثيوبية أن تجعل الأمر شفافًا، وتعيد التفكير في تقليل عدد التوربينات التي سيتم تركيبها في السد. وللعلم فقد خفضت إثيوبيا العدد من 16 إلى 12 ولكن ما زالت كثيرة عما ينبغي أن تكون.
الثالث: لجنة الخبراء الدولية المعنية بتقييم الدراسات الإثيوبية لسد النهضة الإثيوبي الكبير. وقد أثبتت في تقريرها النهائي الصادر في 31 مايو سنة 2013 أن الدراسة المائية المقدمة من إثيوبيا بسيطة للغاية، وليست على مستوى من التفصيل والدقة العلمية والموثوقية التي تلائم سداً بهذا الحجم. وقالت اللجنة إنه تم تحديد ارتفاع السد، الذي يتحكم في حجم الخزان، من دون النظر إلى التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في دول المصب.

وشككت اللجنة في قدرة السد، وهي 6000 ميغاوات، وقالت إنه يجب مراجعتها، وإجراء دراسات لتقييم الآثار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية للسد وأخذها في الاعتبار عند تحديد "الحجم المناسب" للسد.
الرابع: منظمة الأنهار الدولية، وهي منظمة دولية تعنى بمناهضة السدود الكبيرة التي تقام على الأنهار الدولية العابرة للحدود وتعمل في أكثر من 60 دولة حول العالم ومقرها مدينة نيويورك.

وقد أثارت في الخامس من سبتمبر سنة 2013 القلق حول حجم سد النهضة الإثيوبي الكبير "المبالغ فيه". وقالت إنه إلى جانب التوترات التي يسببها هذا المشروع الضخم سياسياً، هناك قلق متزايد من أن السد لن ينتج من الطاقة بالقدر المماثل لما صُمم من أجله.

انخفاض حصة مصر من المياه بمقدار 20 مليار متر مكعب سيؤدي إلى تبوير 4 ملايين فدان من الرقعة الزراعية

ووصفت المنظمة الدولية السد بأنه "مضيعة للوقت والمال، ومسيس، ويُبنى لدوافع سياسية".

وعلقت المنظمة على اتفاق إعلان المبادئ الموقع في مارس سنة 2015 بقولها "إن الطبيعة السرية للمساعي الدبلوماسية تجعل من الصعب- وربما من غير الحكمة- التكهن بشأن التنازلات التي قُدمت، وطبيعتها، ومن قدّمها، بما فيها مصر- التي تحولت من منتقدة شرسة لسد النهضة- إلى الموافقة فجأة على المشروع".
الخامس: وزير الخارجية المصري، سامح شكري، فقد اتهم في مذكرة رسمية إلى مجلس الأمن في الأول من شهر مايو العام الماضي 2020 حكومة إثيوبيا بالمبالغة في سعة سد النهضة.

وقال إنها قامت بتغيير المواصفات الفنية للسد ورفعت قدرته التخزينية من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا، وأن الزيادة الهائلة في حجم خزان السد غير مبررة وتثير تساؤلات بشأن "الغرض الفعلي من السد واستخداماته المتوقعة"، وأن هذا الحجم يزيد بشكل هائل من تأثيراته السلبية المحتملة على الاستخدامات في دولتي المصب.

السادس: وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق، حسام مغازي، والذي زار موقع السد في يوم 21 سبتمبر سنة 2014، أي قبل توقيع اتفاق إعلان مارس سنة 2015 بستة أشهر كاملة، ما عرّضه لهجوم إعلامي واتهام بالاعتراف الضمني بالسد.

فكتب مغازي مقالا في جريدة المصري اليوم يبرر فيه الزيارة وقال إنها تمت بموافقة السيسي، وأنه تفقد السد المساعد الذي يرفع حجم تخزين من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا، وإن هناك مجالاً للتفاوض بشأن أبعاد ومواصفات السد، وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة لمصر، لما أكدته الدراسات الوطنية من خطورة التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنجم عن السد بأبعاده المعلنة.
وكان من المتوقع، وفق تصريحات مغازي، أن يثير المفاوض المصري قضية المبالغة في "حجم السد" خلال المفاوضات ويطالب بتخفيضه مرة أخرى إلى سعة 14 مليار متر مكعب.

لكن المفاجأة أن الجنرال عبد الفتاح السيسي وقع على اتفاق إعلان مارس 2015 وتنازل عن النص على تقليل "حجم السد" المبالغ فيه ضمن بنود الاتفاق، وكرس الاتفاق للاعتراف بالحجم المبالغ فيه واكتفى بالتفاوض على قواعد الملء والتشغيل.
المحزن المبكي أن وزير الخارجية الإثيوبي، تيدروس أدحانوم، صرح لوكالة الأناضول التركية تصريحا مذهلا عقب توقيع الاتفاق المثير للجدل مباشرة قال فيه: "إن مصر لم تطرح خلال المفاوضات التي سبقت التوقيع على وثيقة مبادئ سد النهضة مقترحا يطالب بتخفيض سعة تخزين المياه في السد".

المساهمون