صادق نواب المجلس الشعبي الوطني الجزائري "الغرفة البرلمانية الأولى"، في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2023 الذي كشف تفاصيل أضخم موازنة عامة في تاريخ البلاد بقيمة 13.786 تريليون دينار جزائري، أي ما يفوق 99 مليار دولار وعجز غير مسبوق تجاوز عتبة الـ 42 مليار دولار.
وبانتظار صدوره في الجريدة الرسمية، بعد عرضه على مجلس الأمة، وتوقيعه من قبل رئيس الجمهورية، يقف مشروع القانون في مرمى الانتقادات اللاذعة بشأن ضخامة موازنة وزارة الدفاع الوطني التي بلغت قيمة مخصَّصاتها 3.186 تريليونات دينار (23 مليار دولار) أي 23.23 بالمائة من مجموع الموازنة العامة، وعدم التحديد الدقيق لمصادر تمويل ذلك العجز الهائل، وعدم توافق أولويات الإنفاق الحكومي الواردة في مشروع القانون مع متطلَّبات تخليص المواطنين من الضغوط الاقتصادية والتضخُّمية.
قُدِّرت قيمة الإيرادات الإجمالية المُتوقَّعة في مشروع قانون المالية لسنة 2023 بـ 7.901 تريليونات دينار (أي ما يعادل حوالي 57 مليار دولار)، مقارنة بـ 7 تريليونات دينار في سنة 2022 (أي 48.63 مليار دولار بأسعار الصرف السارية في ذلك الوقت).
يرجع الارتفاع الصاروخي إلى تركيز الحكومة على إعطاء دفعة قوية للإنفاق العسكري بغية تعزيز قدرات الجيش والدفاع في ظلّ التهديدات الأمنية
ويعزى هذا الارتفاع إلى انحسار جائحة كورونا، وتحرُّك عجلة الاقتصاد، وتدخُّل الأقدار في رفع أسعار النفط والغاز؛ بينما بلغت قيمة نفقات التسيير والتجهيز المُتوقَّعة في مشروع القانون 13.786 تريليون دينار (99.55 مليار دولار) مقارنة بـ 7.697 تريليونات دينار في سنة 2022 (53.2 مليار دولار بأسعار الصرف السارية في ذلك الوقت).
ويرجع هذا الارتفاع الصاروخي إلى تركيز الحكومة على إعطاء دفعة قوية للإنفاق العسكري، بغية تعزيز قدرات الجيش والدفاع الوطني، في ظلّ التهديدات الأمنية التي ولَّدتها التوتُّرات الشديدة مع المغرب، لا سيَّما بعد قطع الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط في نهاية أغسطس/ آب الماضي، وتطبيع العلاقات بين المغرب ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مقابل الاعتراف الأميركي بـ "مغربية الصحراء".
بالإضافة إلى أسباب أخرى كالتخطيط لرفع الأجور، ومنح التقاعد والبطالة، ولو بشكل طفيف ابتداءً من يناير/ كانون الثاني 2023، ورفع التجميد عن المشاريع المتوقِّفة، وتمويل بعض المشاريع الاستثمارية التي لم يتبيَّن بعد ما إذا كانت خالقة للوظائف وسريعة العائد، والمخاوف من مزيد من التراجع في قيمة الدينار الجزائري في رحلة السقوط الحرّ، والاستمرار في تخصيص ميزانيات ضخمة لبعض الوزارات غير المنتجة كوزارة المجاهدين وذوي الحقوق.
وبهدف عدم تأجيج الغليان الذي باتت تعرفه الجبهة الاجتماعية بسبب الغلاء الفاحش، لم تلجأ الحكومة في مشروع قانون المالية لسنة 2023 إلى تغذية ذلك الإنفاق العام السخيّ بواسطة رفع الضرائب على المواد الاستهلاكية والطاقوية والرسوم الجمركية، وهي النقطة التي لاقت استحسان النواب، لكن الأمر اللافت للنظر في هذا المشروع هو تأجيل التكفُّل بملف مراجعة الدعم الحكومي وتوجيهه لمستحقِّيه.
فقد صادق نواب المجلس العام الماضي على قانون المالية 2022 الذي تضمَّن المادة 187 التي أفادت بضرورة استحداث جهاز لتوجيه الدعم الاجتماعي، ومن المرجَّح أنّه قد جرى تأجيل هذه الخطوة الهادفة إلى استبعاد الفئات الغنية، التي راكمت ثروات هائلة، من خريطة الدعم المعمَّم لأسباب تقنية تتعلَّق بعدم جاهزية الجزائر للرقمنة، وعدم قدرتها على تحديد الفئات الهشّة المستحقَّة لدعم الدولة، نظراً لانتشار عمليات تهريب البضائع عبر الحدود، وتفشِّي ظاهرة السوق السوداء، وتنامي أعداد العاملين فيها.
رفع الأغلفة المالية المخصَّصة للقطاعات الحسّاسة ليس كافياً، بل ينبغي التركيز بشكل أكبر على تحسين جودة تلك الخدمات وضمان سهولة الوصول إليها
كما يُلاحظ أيضاً في مشروع قانون المالية لسنة 2023 ارتفاع مخصَّصات وزارتي التعليم والصحة، فقد رصد هذا المشروع ما يقارب 1.17 تريليون دينار لقطاع التربية الوطنية (8.44 مليارات دولار) مقابل 825 مليار دينار فقط في 2022 (5.93 مليارات دولار بأسعار الصرف السارية في ذلك الوقت).
وجرى تخصيص ميزانية بقيمة 681 مليار دينار لقطاع الصحة (4.91 مليارات دولار) مقابل 439 مليار دينار في 2022 (3.15 مليارات دولار بأسعار الصرف السارية في ذلك الوقت)، حيث تهدف الحكومة بذلك أساساً إلى توفير الخدمات الصحية والتعليمية لجموع المواطنين، ورفع الأغلفة المالية المخصَّصة لمثل هذه القطاعات الحسّاسة ليس كافياً، بل ينبغي التركيز بشكل أكبر على تحسين جودة تلك الخدمات، وضمان سهولة الوصول إليها.
ما يفوق رصد موازنة ضخمة في الأهمية هو مراقبة إيرادات ونفقات الدولة وطرق صرفها للحيلولة دون هدر المال العام، وتتطلَّب المراقبة الفعّالة ضمان سيادة القانون، وفصل السلطات، واستقلال القضاء بجميع هيئاته، وتوفُّر المساءلة، وأكبر قدر من الشفافية، وتحقيق الاستقلال الكامل لكل الأجهزة الرقابية في الدولة، ومنحها الكثير من الصلاحيات لمباشرة الرقابة المالية، وضبط المخالفات، والكشف عن ممارسات الفساد بمختلف أشكاله، وإحالة كل المتَّهمين إلى القضاء، ومتابعة محاكمتهم.
أداء الجزائر على هذا الصعيد ضعيف جدّاً نظراً لتراكم الفساد في دوائر الدولة وارتباطه ببعض مراكز السلطة والقوّة والنفوذ، لا سيما في مرحلة حكم بوتفليقة، حيث أصبح عصيّاً على المكافحة الشاملة والفعالة، فقد احتلَّت الجزائر المرتبة 117 من أصل 180 دولة في مؤشِّر مدركات الفساد لسنة 2021 الصادر عن منظمة "الشفافية الدولية"، متراجعة بـ 13 مرتبة عن تصنيفها في عام 2020.
تعتبر مسألة تحديد أولويات الإنفاق العام جزءاً لا يتجزَّأ من الإستراتيجية الشاملة لزيادة فاعليته، فبالرغم من كون الإنفاق العسكري المُوجَّه لحماية الحدود الشاسعة مسألة أمن قومي في الجزائر، فإنّ الحكومة ينبغي أن تغيِّر توجُّهها من الاعتماد المطلق على استيراد متطلَّبات القطاع العسكري من الخارج الذي يكرِّس دائماً حالة التخلُّف التقني نحو التركيز على إحراز تقدُّم ولو بسيط في مجال الصيانة العسكرية وصناعة الأسلحة والأسلحة المضادّة، لا سيَّما تلك المتطوِّرة متناهية الصغر وكبيرة التدمير كالطائرات المسيَّرة.
قد لا يدوم تمتُّع الحكومة بأريحية مالية وقتاً طويلاً، لذلك ينبغي عليها الآن الحدّ من الإنفاق غير المنتج حتى لا تلجأ لاحقاً إلى الجباية الجائرة من الشعب الكادح
فقد أثبتت التجارب التركية والإيرانية نجاحها في هذا المضمار، وعدا ذلك لن يكون الإنفاق العسكري المتضخِّم إلا هدراً لمليارات الدولارات التي يجب تسخيرها لتمويل الكثير من المشروعات العامة التي تلبِّي الاحتياجات الأساسية والملحَّة للقاعدة العريضة من أبناء الوطن.
خلاصة القول، قد لا يدوم تمتُّع الحكومة بأريحية مالية وقتاً طويلاً، لذلك ينبغي عليها الآن الحدّ من الإنفاق الحكومي غير المنتج حتى لا تلجأ لاحقاً إلى الجباية الجائرة من الشعب الكادح.