قرّرت حكومة تصريف الأعمال في لبنان رفع قيمة الدولار الجمركي من 1500 ليرة (سعر الصرف الرسمي) إلى 20 ألف ليرة لبنانية بناءً على طرح وزير المال يوسف الخليل خلال اللقاء التشاوري الوزاري الذي عُقِد يوم الثلاثاء واستند فيه إلى صلاحية تشريعية استثنائية تمكّنه من اجراء التعديل وذلك بالتفاهم أيضاً مع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة على أن يكون السعر قابلاً للتغيير من دون أن يشمل مواد غذائية وسلعا أساسية.
وقال وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم في تصريحات صحافية إن وزير المال أعلَمَ الوزراء بأن لديه صلاحية بذلك ولا مخرج آخر لرفد وتعزيز الواردات لحماية القطاعات العامة وتلك المرتبطة بالدولة حتى لا يحصل انهيار شامل، وذلك من خلال رفع الدولار الجمركي، على أن يرسل حاكم مصرف لبنان السعر المعتمد للجمارك، وبالتالي، فإنه لم يعرض الأمر للموافقة.
واختلفت وجهات النظر عند الوزراء والمسؤولين السياسيين في لبنان حول السعر الواجب اعتماده للدولار الجمركي بين من يفضل 12 ألفا، و18 ألفا، و20 ألفا، وسعر منصة صيرفة، (26500 ليرة)، ومن يرى الأنسب رفعه على مراحل، علماً أن رئيس الجمهورية ميشال عون كان رفض توقيع مرسوم رفع سعر الصرف بعدما أحيل إليه موقعاً من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، متمسكاً بضرورة الإتيان به ضمن قانون يقرّ في البرلمان أو ضمن موازنة عام 2022.
صعود الأسعار
وعلى الرغم من تطمينات المسؤولين بأن رفع الدولار الجمركي لن يؤثر على أسعار السلع الأساسية الحياتية المستثناة من التعديل، فقد المواطنون الثقة تماماً بالدولة واجراءاتها التي دائماً ما تنقلب عليهم وتزيد من معاناتهم لتجعلهم تحت رحمة جشع التجار والمهربين ومحاصرين بغلاء يطاول لقمة عيشهم وحتى رغيفهم في ظل غياب الرقابة وبُعد التدابير المُتخذة عن أي خطط شاملة إصلاحية.
بداية، يقول رئيس "الجمعية اللبنانية لحقوق ومصالح المكلفين" (جمعية لبنانية تهدف إلى تعزيز الأخلاقيات الضريبية) المحامي كريم ضاهر لـ"العربي الجديد" إن القانون رقم 93 الذي صدر في 10 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018 يمنح الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي لمدة خمسِ سنواتٍ (ينتهي عام 2023) وذلك بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء.
ويلفت ضاهر إلى أنه انطلاقاً من هذا القانون وفيما يتعلّق بالتعريفات الجمركية، فإن للحكومة أن تمارسَ هذا الحق مباشرة أو تنيب المجلس الأعلى للجمارك أن يمارسه، مشيراً إلى أن "هذا العرف الإداري اتبع بذريعة طابع السرعة الذي تتسم به التشريعات الجمركية ولطابع السرية خلال فترة دراستها وإعدادها حتى إصدارها باعتبار أنها ترتبط أيضاً بمعاهدات دولية واتفاقيات خارجية".
في المقابل، يرى ضاهر أن "هناك أموراً عدّة ملتبسة تحصل من بوابة القانون المذكور، حيث أنيط بوزير المال تحديد السعر إلى جانب حاكم مصرف لبنان، كما أن الحكومة في حالة تصريف أعمال فهل يحق لها اتخاذ قرار تنظيمي كهذا؟ وهل ستتحجج بأن الملف يدخل في طور الاستثناءات التي تنص عليها المادة 62 من الدستور التي تحدد إطار عمل الحكومة المستقيلة أي تصريف الأعمال وتالياً من منطلق تسيير المرافق العامة؟".
ويتوقف ضاهر عند اختيار الحاكم في هذا المجال، مشيراً إلى أنهم ركنوا إليه باعتبار أنهم يغيّرون التسعيرة ولا يعمدون إلى رفع الرسوم، وبالتالي فإن هذا الأمر منوط بالحاكم وفق قانون النقد والتسليف، فكان أن أدخلوا الرجلَيْن من بوابة التسوية، والقول إن صلاحيات الحاكم لم تُمسّ من ناحية، كما أن الحكومة تمارس حقها في التشريع ضمن الحقل الجمركي، يبقى بالتالي حالة تصريف الأعمال وركونها إلى الضرورة القصوى لتسيير المرفق، علماً أن مجلس النواب كان يمكنه أن يطرح الموضوع على طاولته ليتخذ القرار بشأنه ضمن إطار شامل ومتكامل.
سعر صرف جديد
ويأسف ضاهر لاتخاذ مثل هذه القرارات وخلق سعر صرف جديد من دون الأخذ بعين الاعتبار التضخم وتأثيراته السلبية ولا سيما على الأسعار المتفلتة بشكل كبير في ظل عجز السلطات عن ضبطها، وكذلك من دون اجراء أي دراسة جدوى أو محاكاة اقتصادية، فالهمّ فقط تحصيل الأموال لتغطية النفقات والقرارات التي اتخذت اخيراً في معرض منح موظفي القطاع العام التعويضات والمساعدات الاجتماعية التي اقرت وسدّ حاجات الدولة، وهو سيناريو تمارسه الدولة منذ سنوات ولن يؤدي إلا لمزيد من الانهيار.
ويلفت وزير الاقتصاد الأسبق آلان حكيم في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أن رفع الدولار الجمركي من شأنه أن ينعكس سلباً على أسعار جميع السلع، التي تعاني أصلاً من زيادات عشوائية، الأمر الذي من شأنه أن يفاقم معاناة المواطنين خصوصاً أن القدرة الشرائية عند المستهلك ستتأثر بدورها وتشهد مزيداً من التدهور ولا سيما أن السحوبات المصرفية هي على 8 آلاف ليرة لبنانية.
ويشير إلى أن "معظم الاستهلاك في لبنان يرتكز على الاستيراد الخارجي، رغم محاولات إعادة دفع الصناعة اللبنانية، وبالتالي فإن استهلاك المواطن سيتأثر سلباً".
ويرى حكيم أن رفع الدولار الجمركي قد يكون مطلوباً وضرورياً ولكن ليس بهذه الغوغائية وفي ظل تعدد أسعار الصرف، بين سعر الصرف الرسمي، ومنصة صيرفة التابعة لمصرف لبنان، والسوق السوداء، واليوم سعر الدولار الجمركي وغيرها من الأسعار، وهي مشهدية غير منطقية لا رقمياً ولا اقتصادياً أو مالياً.
خطة شاملة
ويشدد الوزير اللبناني الأسبق على أن الحلّ يكون بخطة شاملة نابعة من رؤية اقتصادية وبرنامج إصلاحي واضح، أي لا يمكن أن ينطلق من خطوات منفردة ومنفصلة وقرارات تصدر عن وزير في الحكومة وضمن لقاء تشاوري، لأن الاقتصاد مترابط ويقتضي توحيد القرارات والخطوات على الصعيد الاقتصادي والمالي للقيام بمعالجة جدية وحقيقية، ما تزال غائبة رغم مرور 3 سنوات على الأزمة.
ويتوقف حكيم عند 3 مخاطر مميتة لبنان أمامها على المدى القصير، أولها تدني الاحتياطي، ربطاً بمنصة مصرف لبنان صيرفة، قدوم شهر أيلول، بحيث ستفتح "جهنّم" من الناحية الاستهلاكية مع دخولنا موسم المدارس وفصل الشتاء، إلى جانب ارتفاع سعر صرف الدولار الذي نراه يومياً وتثبيته بات صعبا جداً.
من جهته، يقول الكاتب والباحث الاقتصادي خالد أبو شقرا لـ"العربي الجديد" إن وزير المال استند إلى القانون رقم 93 لاتخاذ القرار منفرداً من دون قانون أو مرسوم، وله أن يغيّر السعر تبعاً للرقم الذي يريد اعتماده، رابطاً نيته بتحقيق إيرادات بين 4 آلاف و10 آلاف مليار ليرة وهو ما لن يتحقق سيّما أنه لا يترافق مع أي خطة إصلاحية شاملة أو توحيد لسعر الصرف.
ويشير إلى أننا بمجرد دخول القرار حيّز التنفيذ سنكون أمام انخفاض للاستيراد وتراجع الاستهلاك وتدهور إضافي في القدرة الشرائية، في مقابل زيادة التهرب الضريبي، وارتفاع معدلات التهريب إلى نسب قياسية، خصوصاً في ظل تفلت المعابر سيما منها غير الشرعية، ما سيغرق أيضاً السوق بالبضائع المهربة التي ستباع بأسعار أقل من البضائع المجمركة وتالياً يحرم الدولة من الضرائب المفروضة وينعكس سلباً على الشركات ويوقعها في خسائر وربما يودي بها إلى الإقفال، عدا عن أن هذا القرار سيستفيد منه تجار من أصحاب الامتيازات.
وفي وقتٍ يعد المسؤولون بأن الدولار الجمركي لن يشمل المواد الاستهلاكية الأساسية، يرى أبو شقرا أن هناك كماليات باتت تصنَّف أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها وسيشملها الرفع، وبالتالي تمسَ جيب المواطن الفقير، خصوصاً في ظل غياب البدائل! على سبيل المثال، إن قطاع السيارات سيتأثر كثيراً بالقرار الذي يشمل ربطاً قطع الغيار وهي كلها مستوردة وسبق للسائقين العموميين أن شكوا من ارتفاع أسعارها أساساً، وبالتالي فإن المواطن سيتكبّد مصاريف هائلة على سيارته، في بلاد لا يوجد فيها نقل عام.
ويشير أبو شقرا إلى أن السلع ستشهد ارتفاعاً كبيراً في الأسعار ترهق المواطنين الذين ما تزال رواتبهم وفق سعر الصرف الرسمي وسحوباتهم المصرفية على 8 آلاف ليرة ويواجهون دولرة على مختلف القطاعات، بينما التجار الذين عمدوا في مراحل سابقة إلى الاستيراد بكميات كبيرة وتخزين البضائع تحسباً لرفع الدولار الجمركي سيزيدون من ثرواتهم.
ويضع الباحث الاقتصادي رفع الدولار الجمركي في خانة "الخوّة" إذ هو بعيدٌ حتى عن المفهوم العام للضرائب على صعيد تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والقدرة على توزيع الثروة في المجتمع.