حذّر يوم الاثنين الماضي (26 أكتوبر/ تشرين الثاني) ناطق باسم وزير الخارجية الفرنسي، جان - إيف لودريان (Jean-Yves Le Drian) من التمادي في الهجوم على فرنسا ورئيسها، ومن مقاطعة السلع الفرنسية والشركات الفرنسية في العالمين العربي والإسلامي، قائلاً "إن أقلية من المتطرفين هي التي تقود هذه الدعوة". وبالطبع، هذا وصف غير صحيح لحجم الاحتجاج ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتصريحاته الهوجاء، واستفزازاته المستمرّة ضد المسلمين.
وللتذكير فقط، هنالك 57 دولة، غالبية سكانها من المسلمين، بما في ذلك الدول العربية. ويبلغ تعدادهم في العالم حوالي 1.9 مليار نسمة. ويفوق مجموع التبادل التجاري الكلي من الاستيراد والتصدير بين هذه الدول مع فرنسا حوالي 20% من تجارة فرنسا الخارجية، أو ما يساوي 240 مليار دولار أميركي. وتستثنى من هذا الرقم بالطبع عوائد السياحة، والاستثمارات الإسلامية في فرنسا، والاستثمارات الفرنسية في الدول الإسلامية.
وتعاني فرنسا، حسب إحصاءات عام 2018، من عجز في ميزانها التجاري مع العالم قدره 90 مليار دولار، و72 ملياراً عام 2017. ولذلك، فإن المقاطعة لبضائعها تضر شركات فرنسية مهمة، مثل الملابس، والمنتجات الزراعية المصنعة، والعطور، والسيارات، والمكائن، ومنتجات الحليب، والشوكولاته، وغيرها من السلع. ومن هنا، فإن أي تراجع، ولو بنسبة 5% بسبب حملة المقاطعة من مجموع صادراتها وخدماتها سيؤدي إلى خسائر سنوية لا تقل عن 30 مليار دولار سنوياً.
ومما يقلل من هذا الرقم أن الدول الإسلامية غير راغبة على المستوى الرسمي أن تفتح معركة مع فرنسا، وهو على عكس نبض الشارع. ولعل الأردن تشكل واحدة من هذه الحالات. ولقد أزال تجار كثيرون البضائع الفرنسية من محلاتهم، وطالبت مؤسسات المجتمع المدني بتعزيز المقاطعة وشدّ أزرها. أما الحكومة فقد اكتفت ببيانٍ تدافع فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تدين فيه الرئيس الفرنسي.
استثمارات فرنسا في الأردن
وعلاقة الأردن بفرنسا سياسياً واقتصادياً متميزة، ففرنسا هي أكبر مستثمر أجنبي في الأردن، فلها استثمارات مباشرة في قطاع الإسمنت (لافارج - هولسين)، وتملك شركة أورانج للاتصالات، بما في ذلك ثاني أكبر شركة للهاتف المتنقل، وتستثمر في قطاع المياه بالإدارة، وكذلك أنجزت مع الحكومة مشروع إعادة بناء وتوسيع مطار الملكة علياء الدولي، وتقدر القيمة الاسمية لهذه الاستثمارات بحوالي 10 مليارات دولار.
ولا يريد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ومن بعده مرشحو الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة في حرج. وقد ساهمت أعمال إرهابية في فرنسا بالذات في قتل عدد من الفرنسيين في مناطق عدة، ولكن معظمها نتج عن قصة الرسوم الكرتونية التي نشرتها مجلة شارلي إيبدو عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ويدّعي الرئيس الفرنسي أنَّ هذا "إرهاب أصولي إسلامي"، وأن فرنسا لا تستطيع محاكمة المتعاملين بالرسوم المسيئة، لأن فرنسا تؤمن إيماناً قوياً بما يصطلح على تسميتها باللغة الفرنسية "Laicite"، أو "العلمانية" كما نصت عليه المادة الأولى من الدستور الفرنسي، وكما نص عليه قانون 1905 بالفصل بين الدِّين والكنيسة. ولفرنسا، كما نعلم، تاريخ طويل مع العلمانية، فقد كان شيخ فلاسفة التحرّر، فولتير، من أكبر النافذين، وحتى الساخرين من الكنيسة الكاثوليكية. وينطبق المنطق نفسه على جان جاك روسو، ومونتسكيو، وهم المزودون للفكر الذي قامت عليه الثورة الفرنسية، وكلهم كانوا علمانيين.
وقدمت فرنسا في القرن العشرين فلاسفة كباراً، أمثال جان بول سارتر، وألبير كامو، وجان جينيه. وهؤلاء الثلاثة هم من كبار فلاسفة الوجودية غير الدينية، وهم الذين عمقوا فكرة إبعاد الدين عن الكنيسة. ولكن هنالك في الدستور الفرنسي حقوق دينية مفتوحة، ولكل فرد حق مشروع راسخ في ممارسة دينه، وكذلك للدولة حق في الاحتفال بالمناسبات الدينية، ومنح إجازات لممارستها، ولكن الدولة لا تحبذ ديناً على دينٍ آخر.
حرمة المقدسات الدينية
وعلى الرغم من هذا، من الذي يجرؤ أن يقول إن فرنسا ليست كاثوليكية؟ ومن منا ينسى ما تركه حريق كنيسة نوتردام الذي بدأ يوم الخامس عشر من ابريل/ نيسان عام 2019، وكيف هرع الرئيس الفرنسي مذهولاً وموجع القلب بسبب الحريق الذي أطاح أجزاء تاريخية ورمزية من الكنيسة (البرج مثلاً)؟، فإذا كانت للأماكن حرمة، وحزن عليها، على الرغم من أنها تقف شواهد ضد المدرسة اللادينية، فلماذا لا نقدم الاحترام لرموز الأديان الأخرى، كالإسلام، وهو ثاني أكبر دين في فرنسا بعد المسيحية؟
وحريق نوتردام عند الكاثوليك يوازي التطاول على رسول الإسلام بالإساءة، سواء كان ذلك مبرّراً بمدرسة اللادينية أو بالفصل بين السياسة والدين، أو بمدرسة العلمانية.
وكان الكاتب البريطاني سلمان رشدي الذي منح لقب الفروسية في بريطانيا قد أثار جدلاً كبيراً عام 1988 بسبب روايته "آيات شيطانية"، وصدرت فتوى من الإمام الخميني بهدر دمه.
كما أثارت رسومات نشرت في الدنمارك عام 2005 في صحيفة Jyllands - Posten ثورة هائلة ومقاطعة للسلع الدنماركية، ما دفع الحكومة الدنماركية آنذاك إلى الاعتذار.
ولا شك في أن الرئيس الفرنسي ماكرون قد حوّل العلمانية إلى مدرسة أصولية، وقد ورد هذا في مقالة كتبها روبرت زارتسكي في إبريل/ نيسان عام 2016 في مجلة Foreign Affairs. لم يعتذر، وإنما تحدّى بالاستمرار بنشر الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول، ما فتح عليه كل النقد والاتهام، وصارت سيرته الذاتية وقصة زواجه مثالاً للتندّر والقَدْح.
لا يجوز للأنماط الديمقراطية أن تصبح مدارس أصولية ترفض الآخر. لقد ارتكب ماكرون الخطأ نفسه الذي يوجهه إلى الأصولية الإسلامية.