اندلعت الأسبوع الماضي مظاهرات في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية، والفشل في التعامل مع انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، بعد أن اتسعت الهوة بين سعر البيزو الرسمي، والبالغ 82 بيزو مقابل الدولار، وسعره في السوق السوداء، التي يطلق عليها الأرجنتينيون اسم "الكهوف"، والذي اقترب من 170 بيزو مقابل كل دولار، بينما تجاوز عدد حالات الإصابة بالفيروس في البلاد مليون حالة، مات منها ما يقرب من 27 ألفاً متأثرةً به.
وأمضت الأرجنتين أربع سنوات مستقرة، تصالحت فيها البلاد، تحت حكم الرئيس موريسيو ماكري المرضي عنه من الولايات المتحدة، مع العالم والمنظمات الدولية، خلال الفترة بين 2016-2020، وتمكنت خلالها البلاد من إصدار سندات دولية، في أعقاب عقد ونصف من العزلة، بعضها يستحق بعد مائة عام.
ولم تتمكن الأرجنتين من تحقيق ذلك إلا بقبول ماكري تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي القاسية على الشعوب، لتتم مكافأته بعدها بالاتفاق على أكبر قرض في تاريخ الصندوق، بقيمة 57 مليار دولار، وتفتح أسواق العالم أبوابها على مصراعيها للسندات الأرجنتينية، بعد أن اطمأن المستثمرون للبلد التي وثقت بها أكبر مؤسسة مالية عالمية.
وتبدلت الأحوال بعد الخسارة المفاجئة لماكري في انتخابات الرئاسة أواخر العام الماضي أمام ألبرتو فرنانديز، ذي الميول اليسارية غير المرحبة بالاستسلام لشروط صندوق النقد، ليوقف الصندوق دعمه للبلاد، ويتراجع المستثمرون، الذين سمعوا بإفلاس البلاد تسع مرات سابقة، عن إقراضها.
ورغم اتفاق ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية على إعادة هيكلة 65 مليار دولار من الديون المستحقة عليه، تعرضت البلاد لظروف قاسية، اقتربت بها من حافة الإفلاس للمرة العاشرة، بعد أن تراجع احتياطي النقد الأجنبي لديها بصورة واضحة، وارتفع معدل التضخم لمعدلات غير مشهودة منذ فترة.
ثم جاءت جائحة كورونا، التي فرضت على أغلب حكومات العالم اقتراض مبالغ طائلة ليتم توجيهها إلى الشركات والمواطنين الذين فقدوا دخولهم، لتزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي الأرجنتيني.
وخلافاً لما قامت به أغلب حكومات العالم من اقتراض، فضلت حكومة الأرجنتين طبع كميات ضخمة من النقود، وهو ما تسبب في زيادة الضغوط التضخمية، ليصل معدل التضخم إلى 37%، على الرغم من توقعات تراجع الاقتصاد خلال العام الحالي بنسبة تتجاوز 12%.
وللتعامل مع هذه المستجدات، فرضت الحكومة الأرجنتينية ضريبة بنسبة 35% على مشتريات الأفراد من الدولار، ووضعت حداً أقصى لمسحوباتهم الشهرية من العملة الأجنبية لا يتجاوز مائتي دولار، تُخصم منها المدفوعات الخاصة باشتراكات التطبيقات الشهيرة على الإنترنت، مثل نتفليكس وسبوتيفاي وغيرها.
وفي نفس الوقت، جمدت الحكومة أسعار المواصلات والاتصالات والغاز الطبيعي، كما فرضت قيوداً شديدة على الاستيراد للإبقاء على ما تبقى لديها من عملة أجنبية، إلا أن الأمور ما زالت تسير من سيئ لأسوأ، ولا يبدو أن صندوق النقد سيقدم دعماً حقيقياً طالما بقي الرئيس الحالي في الحكم.
عندما ظهرت بوادر لتعثر الأرجنتين في سداد ما عليها من ديون أواخر العام الماضي، توجهت بسؤال مباشر إلى أحد المديرين التنفيذيين بصندوق النقد الدولي، عما سيفعله الصندوق مع أكبر المقترضين منه، فكانت الإجابة واضحة وصريحة: "سننتظر لنرى ما تريده الإدارة الأميركية، ثم نقوم بتنفيذه".
القصة السابقة بكل تفاصيلها، تثير الكثير من الشكوك حول التقارير التي تصدر عن الصندوق حول اقتصادات الدول المختلفة، بعد أن أثبتت التجربة الأرجنتينية إن قرارات الصندوق، وتقييماته، وشهاداته، تتأثر بمن يحكم البلاد وتوجهاته، حتى لو جاء به صندوق الانتخابات.
تحتمل التقارير والتحليلات الاقتصادية القراءة على عدة أوجه، فيراها الصندوق معبرة عن نجاح البرنامج الاقتصادي للحكومة، ونموذجاً تحتذي به الدول الأخرى، لو كان راضياً عن البلد الصادرة عنه التقارير، حتى وإن كان مصدر الرضا هو الضوء الأخضر الصادر عن واشنطن، أو الورق الأخضر الوارد من حكومات الخليج الغنية.
أما لو كانت واشنطن والدول الكبرى غير راضية عن حكومة بلدٍ ما، ولم يكن هناك من يدعمه من كبار ممولي الصندوق، أو ممن ينفقون ببذخ في مثل تلك الأمور، فستكون أوضاعه دائماً محل شك، وبقعة طاردة للمستثمرين، وإن عظمت جهوده في الإصلاح الحقيقي للاقتصاد.
هذا ما حدث مع مصر، التي تعثرت مفاوضات حصولها على قرض من صندوق النقد خلال فترة حكم أول رئيس مدني منتخب في تاريخها، كونه جاء ممثلاً لتيار الإسلام السياسي غير المرضي عنه من الكبار، قبل أن يأتي انقلاب 2013، الذي دعمته السعودية والإمارات، وكلتاهما من كبار ممولي الصندوق، سراً وعلانيةً، ولم ترفضه الولايات المتحدة.
ورغم عدم وجود خلافات كبيرة بين الإدارات الأميركية المختلفة في أغلب الأحيان، اعتبر البعض أن إعلان مجلس إدارة الصندوق عن موافقته على إقراض مصر 12 مليار دولار بعد يومين فقط من إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة في 2016، ثم تهنئة الرئيس المصري له قبل أي رئيس آخر، لم يكن من باب المصادفة.
ومرة أخرى، ورغم عدم تقديمها ما يُذكر لمساعدة المواطنين في التغلب على تبعات الجائحة، تمكنت الحكومة المصرية من تأمين مبلغ يقترب من ثمانية مليارات من الدولارات بعد أسابيع قليلة من ظهور وانتشار الفيروس القاتل في مصر.
ولنفس تلك الأسباب، تتعثر مفاوضات لبنان الثائر حالياً مع الصندوق، وستظل تتعثر، طالما استمر في رفضه لدخول حظيرة الدول الكبرى.
ولنفس تلك الأسباب لا تسفر محاولات تونس، الناجي الوحيد من حملة اغتيال الربيع العربي، إلا عن الحصول على الفتات من الصندوق، رغم فرضه الكثير من الشروط والأعباء، ولنفس تلك الأسباب، لا تريد تركيا حتى الآن التوجه للصندوق، رغم الضغوط الهائلة التي تتعرض لها عملتها، والحملات الضارية من المعادين.
الرائحة العفنة القادمة من الصندوق ليس مبعثها قرارات المنح والمنع ودوافعها فقط، وإنما تمتد لتشمل الشروط التي يفرضها الصندوق، والمتحكمون فيه، على المقترضين، وإن كان لهذا حديث آخر.