تدفع حالة الغموض حول صفقة مشروع "رأس الحكمة"، الذي أعلنت الحكومة عنه في نهاية الأسبوع الماضي، الأسواق إلى حالة من التذبذب في سعر الدولار والذهب، مع استمرار الأسعار السائدة على معدلات مرتفعة بكافة السلع الغذائية والاستهلاكية والمعمرة.
تعتبر الحكومة الصفقة هي الأكبر من نوعها في تاريخ الاستثمار بالدولة، متجاهلة حجم النفقات الهائلة التي وجهتها للعاصمة الجديدة، والتي فاقت 100 مليار دولار خلال 8 سنوات، بينما يخشى البعض من غموضها واعتبارها صفقة موازية لـ"صفقة القرن" مدعومة من الولايات المتحدة ومؤسسات مالية لإنقاذ النظام من أزمة مالية خانقة.
يؤكد محللون أن الصفقة ستساهم في تعويم الجنيه خلال أيام، مع اقتراب سعر الدولار من مستوى متفق عليه بين الحكومة وصندوق النقد واعتمدته مؤسسات مالية دولية كبيرة، حيث سيراوح سعر الدولار ما بين 40 و45 جنيها.
عبر اقتصاديون عن قلقهم من أنباء تسربت إليهم خلال الأيام الماضية، حول رغبة الحكومة في تعويم مدار لسعر الصرف، يتم عبر تدخل جهة أمنية سيادية في أعمال البنك المركزي، لفرض سعر محدد للدولار، تتعامل به البنوك خلال الفترة المقبلة، وتتولى الجهة الأمنية تلقي طلبات المستثمرين والمستوردين لتدبير احتياجاتهم من العملة الصعبة من البنوك، أسوة باللجنة الحكومية لاستيراد الأدوية ومستلزمات الإنتاج التي تدير الواردات.
يشير اقتصاديون إلى أن تراجع سعر الدولار في السوق الموازية إلى أقل من 50 جنيها، من مستوى 63 جنيها، قبل الإعلان عن الصفقة، نتيجة الضغوط الأمنية الشديدة على كبار التجار والموردين والصاغة، وتوقف حركة البيع والشراء بين المتعاملين على العملات الصعبة، انتظارا لما سيترتب على تنفيذ تلك الصفقة من التحويلات المالية الهائلة التي أعلنت عنها الحكومة.
يرفض أعضاء الغرف التجارية والصناعية تحديد مدى زمني لتخفيض أسعار المنتجات، مشيرين في أحاديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن حالة الغموض التي تدير الحكومة الأزمة المالية بها والمعلومات عن الصفقة الكبرى، تصعّب قدرة الموردين على تحديد أسعار المنتجات خلال الشهرين القادمين واحتفاظ الجميع بأسعار التعاملات التي تمت على المنتجات الحالية، عند مستوى فوق 75 جنيها للدولار، إلى حين التأكد من إمكانية حصولهم على الدولار بسهولة من البنوك بأي قيمة تحددها الدولة.
حذر اقتصاديون من التفاؤل المفرط التي تدير به الحكومة الأسواق، مع وجود حاجة ماسة لتدبير نحو 24 مليار دولار لسداد فوائد وأقساط الديون خلال عام 2024، و11 مليار دولار عجزا في النقد الأجنبي لصالح عملاء البنوك، وتصاعد الفرق بين الواردات والصادرات، وتراجع معدلات الدخل من قناة السويس بنسبة 50%، وعوائد المصريين بالخارج بنحو 30%، وتراكم مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي بالموانئ، مع حاجة الموردين إلى 13 مليار دولار للإفراج عن تلك المستلزمات بمنافذ الوصول.
حصلت الصفقة على دعم واسع من برلمانيين وأحزاب وقيادات الغرف السياحية والتجارية والمطورين العقاريين، بينما لا تزال محل دراسة بين مجتمع الأعمال والمستثمرين، الذين يربطون وجودها بتنفيذ الحكومة سياساتها على أرض الواقع.
يشير رجال أعمال إلى أنهم يقيسون حقيقة الصفقة عندما يتراجع البنك المركزي عن قيوده المشددة على استخدام المواطنين بطاقات الدفع بالعملة الصعبة، وتبيع البنوك الدولار والعملة الصعبة لمن يطلبها أو توفرها لشراء مستلزمات الإنتاج من الخارج.
يعتبر خبير التمويل والاستثمار رشاد عبده الصفقة من أفضل القرارات التي اتخذتها الحكومة، لأنها قائمة على أساس الشراكة وليست بيع الملكية العامة، لأنها تحتفظ للدولة بالحصول على أرباح بنسبة ثابتة طوال عمر المشروع، ولا تحرم الأجيال المقبلة من حقها في امتلاك الأصول العامة وجني العوائد لمدد زمنية طويلة.
يؤكد عبده أن توفير الجانب الإماراتي 24 مليار دولار خلال شهرين، سيوفر سيولة من الدولارات عبر البنوك والقنوات الرسمية لشراء مستلزمات الإنتاج من الخارج بما يمكن المصنعين من رفع طاقتهم الإنتاجية، مشيرا إلى إمكانية توظيف السيولة في مساعدة الدولة على التوجه نحو" تعويم الجنيه" من أجل توحيد سعر الصرف.
يتوقع "خبير التمويل والاستثمار" إمكانية أن يصار لتعويم الجنيه إلى حدود 40 – 45 جنيها للدولار، مشيرا إلى مساهمة التعويم في تمكين وصول السلع بأسعار رخيصة للمستهلكين.
يوضح عبده أن تراجع الدولار في السوق الموازية يعكس عودة الثقة في قدرة الدولة على تدبير الدولار، ووجود إيرادات متوقعة خلال الفترة المقبلة تساهم في مواجهة الطلب على الدولار، مؤكدا أن أداء الحكومة الضعيف وعدم قدرتها على توظيف أدواتها الرقابية والإدارية تجاه محتكري السلع والمتلاعبين في السوق السوداء يجب أن يتبدل في حال امتلاكها التمويل الكافي لإجراءات تعويم الجنيه، وجعل الدولار ميسرا أمام طالبيه عبر البنوك.
يسوق رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي للمشروع على أنه أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر، مبينا أنه يستهدف إسناد تنمية وتطوير منطقة رأس الحكمة إلى شركة أبوظبي القابضة للاستثمار بقيمة إجمالية 35 مليار دولار.
يشير بيان مجلس الوزراء إلى أن الاتفاق المالي يتضمن توفير 15 مليار دولار خلال أسبوع، و20 مليار دولار أخرى خلال أسبوعين، من بينها 11 مليار دولار ودائع لحساب دولة الإمارات بالبنك المركزي، ستحول قيمتها بالجنيه.
يظهر البيان ضخ الإمارات نحو 150 مليار دولار طوال فترة المشروع، الذي يقع ضمن مخطط التنمية العمرانية لمصر عام 2022، والذي تنفذه الدولة حاليا ضمن سلسلة من المدن العمرانية المتكاملة، مثل العلمين، ورأس الحلوة وسيدي براني، وجرجوب، والنجيلة، ومطروح والسلوم، تستهدف استيعاب السكان وتوفير فرص عمل لملايين المصريين.
أضاف رئيس الوزراء غموضا حول ملكية الأصول، عندما قال في تصريحات صحافية، الخميس الماضي، إن المشروع الكبير لتنمية رأس الحكمة يتم بالآلية نفسها التي تعمل بها وزارة الإسكان، بإتاحة الأرض بمقابل مادي، وقيام المطورين بالتطوير والتنمية وإنشاء المشروعات.
وبيّن أن مساحة المدينة تبلغ 170.8 مليون متر مربع، تعادل نحو 40 ألفا و600 فدان، وستكون عبارة عن شركة باسم "رأس الحكمة"، التي ستتولى إنشاء مجتمعات مدنية لجذب 8 ملايين سائح، ومنطقة حرة خدمية خاصة، وحي مركزي للمال والأعمال، ومارينا لليخوت والسفن السياحية، ومطار دولي يخصص أرضه لشركة مصر للطيران، تتولى شركة "أبو ظبي للتنمية" إقامته وتطويره.
يشير مدبولي إلى أن الدولة ملتزمة بتعويض أهالي مطروح المقيمين على أرض المشروع نقديا وعينيا، ونقلهم إلى تجمعات قريبة من المنطقة، مع ترتيب عودتهم بأسرع وقت ممكن. يعتبر رئيس الوزراء الاتفاق صفقة إنقاذ قامت بها دولة الإمارات، ورسالة ثقة، مؤكدا أن عائدها سيكون مجزيا للدولة.
يتهرب مدبولي من تحديد طبيعة الصفقة، هل هي بيع للأصول؟ أم مجرد شراكة لفترة زمنية محددة؟ معلنا في بيانه أن نجاح الاقتصاد يقاس بقدرته على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعظيم الشراكة مع القطاع الخاص وتقليل الفجوة بين الإيرادات والمصروفات، مستدركا بأنه نجاح في العمل على تعظيم الاستثمارات في مشروع قائم على فكرة الشراكة مقابل حصة من الأرباح وليس بيعا للأصول.
يراهن مدبولي على مساهمة الصفقة في تحقيق الاستقرار النقدي، والحد من تصاعد التضخم، وتوحيد سعر الصرف.
يبدي اقتصاديون حذرهم من التعامل مع صفقة ظهرت للوجود فجأة، بعد شهرين من مطالبة رئيس الدولة للشعب بتحمل الآثار المترتبة على زيادة الدولار، ودعوته الناس إلى أن يكتفوا بوضع صنف واحد من الطعام على موائدهم في شهر رمضان، في استعداد لمواجهة فترة "الشدة" مع تصاعد الأزمة الاقتصادية للعام الثامن على التوالي.
قال مصدر اقتصادي لـ"العربي الجديد"، إن الصفقة ولدت مع "فرقعة إعلامية" فجأة دون اقترانها ببيانات تامة عن أطراف الصفقة، وجميع محتويات العقود التي يجب أن تعلن في مثل هذه الصفقات، مشيرا إلى أن ارتباطها ببيع أو تخصيص أرض لأجانب يشترط أن تعرض على البرلمان.
يضيف المصدر أنها تشبه "صفقة القرن" التي تروج لها الولايات المتحدة لدفع الدول العربية إلى الشراكة والتطبيع الكامل مع إسرائيل، في غموضها وتسريب معلومات بسيطة حول بنودها، لتظل الاتفاقات الكاملة ضمن إطار محدود من الأشخاص، دون أن تمر على المجالس التشريعية والأجهزة الرقابية أو مناقشها نصوصها كاملة في الصحف أمام الرأي العام.
يشير بيان مجلس الوزراء إلى أن الاتفاق المالي يتضمن توفير 15 مليار دولار خلال أسبوع، و20 مليار دولار أخرى خلال أسبوعين، من بينها 11 مليار دولار ودائع
وعلق المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، بالقول: "الصفقة لها رائحة حلوة، بينما يكمن الشيطان في التفاصيل، لتظهر الروائح غير الجيدة مع الإعلان عن الصفقة فجأة في ظل وجود صفقة سياسية أخرى تجري حول مستقبل الأوضاع الأمنية في غزة".
يشير المصدر إلى أنه ربما يأتي الظهور المفاجئ ضمن ترتيبات أمنية واسعة في المنطقة، تستهدف إدارة الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة وفقا لرؤية اقتصادية، مثل تلك التي استهدفتها صفقة القرن الأميركية.
وأكد أن ضخ هذه الأموال دفعة واحدة خلال الشهر المقبل يأتي في إطار صفقة سياسية لدعم النظام الذي يجابه الأزمة الاقتصادية منذ فترة، ويتطلب إنقاذه توفير السيولة المالية على وجه السرعة لوقف ارتفاع الدولار وتهدئة الأسعار.
يربط المصدر بين الترحيب بالصفقة من مؤسسات اقتصادية دولية كبرى، من بينها "جي بي مورغان"، الذي خفض تصنيف مصر الائتماني منذ أسابيع، واعتبار مسؤولي صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي الاتفاق مؤشرا جديدا يساهم في تحقيق استقرار سعر الصرف، يعني أن هناك تخطيطا مسبقا لتنفيذ تلك الصفقة قبل الإعلان عنها رسميا.
حذر رجل أعمال يدير مشروعات سياحية بالمنطقة من مصادرة الدولة أملاك عشرات المستثمرين المصريين الذين ضخوا مليارات الجنيهات خلال السنوات الماضية لإقامة قرى سياحية على سواحل "رأس الحكمة" الواقعة ضمن الأراضي التي حددها رئيس الوزراء لشركة "أبوظبي للتنمية".
وأشار رجل الأعمال إلى تخصيص الدولة نحو 4850 فدانا للملك فاروق وأسرته على أرض المشروع، سبق أن اشتراها من الدولة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، بجوار الاستراحة الملكية التي تحولت تبعيتها لرئاسة الجمهورية، حيث كان الرئيسان السادات ومبارك يفضلان قضاء العطلة الصيفية فيها طوال 4 عقود.
وبيّن رجل الأعمال، الذي رفض ذكر اسمه، أن الدولة تمتلك بالمنطقة مطارا سياحيا وميناء صغيرا ووحدات تابعة للرئاسة والجيش غير مملوكة للجهة التي خصصت الأرض للمشروع.
تساءل رجال الأعمال عن سبب إصرار الدولة على التفريط في "رأس الحكمة"، بينما تسعى إلى بيع المشروعات التي أنفقت عليها عشرات مليارات الدولارات في العاصمة الجديدة للمستثمرين والمطورين العقاريين الأجانب.
بالإضافة إلى حاجتها الماسة لتمويل مشروعات مدينة العلمين التي توقفت عن استكمال مخططها حاليا لندرة التمويل، بينما ستقوم بمصادرة الأراضي من مستثمرين ومواطنين لصالح مشروع ما زال مجهول الهوية ظهر فجأة لإخراج الحكومة من عثرتها المالية.