استمع إلى الملخص
- **التحقيقات الأوروبية**: توقيت التوقيف أثار تساؤلات حول ارتباطه بالتحقيقات الأوروبية، مع شكوك بأن الدولة اللبنانية تسعى لمحاكمته محلياً لمنع محاكمته في دول أخرى.
- **ردود الفعل**: أثار التوقيف ردود فعل متباينة، حيث شكك بعض السياسيين في خلفياته، بينما أكد آخرون أنه خطوة نحو تحقيق العدالة.
ضجّت الساحة اللبنانية منذ أمس الثلاثاء، بخبر توقيف حاكم مصرف لبنان المركزي السابق رياض سلامة ونقله إلى سجن تابع للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، خصوصاً أنّ الخطوة أتت مفاجئة، باعتبار أنه لا يمثل عادة أمام القضاء إلّا عند حصوله على ضمانة سياسية بخروجه حرّاً فور انتهاء استجوابه.
وطرأ اليوم الأربعاء، تطور مهم على الملف تمثل بادعاء النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، على سلامة بجرائم "الاختلاس وسرقة أموال عامة والتزوير والاثراء غير المشروع"، وذلك بعدما ختم النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار تحقيقاته الأولية وأودعها جانب النيابة المالية. وأحال إبراهيم سلامة مع الادعاء ومحاضر التحقيقات الأولية على قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي، طالباً استجوابه وإصدار مذكرة توقيف وجاهية بحقه، على أن يبدأ حلاوة اعتباراً من غد الخميس الاطلاع على الملف وتحديد موعد لاستجواب سلامة.
وقد فتح توقيف سلامة الباب العريض أمام التساؤلات والتحليلات حول خفايا القرار القضائي الذي يأتي بعد أكثر من 13 شهراً على انتهاء ولايته على رأس حاكمية البنك المركزي، وبعد جولات عدة له من محاولات التمرّد على السلطة القضائية التي قبل المثول أمامها "مطمئناً" بأنّ سجنه يعدّ من السيناريوهات المستحيلة، لكونه يُعرَف بأنّه صندوق أسرار الطبقة السياسية والشخصيات المالية والأسماء البارزة، وبسقوطه ستكرّ سبحة الفضائح المالية.
توقيت توقيف رياض سلامة
لعلّ التشكيك الأكبر في توقيت توقيف سلامة يرتبط بالتحقيقات الأوروبية، ولا سيما الفرنسية التي شارفت على الانتهاء، ونيات الدولة اللبنانية وضع يدها على التحقيق بحيث إنه إذا جرت محاكمته في لبنان، يمنع بالتالي قانوناً محاكمته بالقضية نفسها في دولة أخرى، إلى حين صدور الحكم فيها.
وسبق أن لوّح سلامة قبيل مغادرته الحاكمية أن على القضاء البدء بملاحقة السياسيين، مؤكداً أنه أصبح "كبش محرقة"، وذلك في معرض محاولاته المتكررة لنفي تورّطه باختلاس الأموال العامة، مؤكداً أن سياساته النقدية ساهمت طوال فترة ولايته التي استمرّت ثلاثة عقود بإرساء الاستقرار والنمو الاقتصادي، وذلك قبيل الانهيار الكبير أواخر عام 2019 وخسارة الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المائة من قيمتها.
وفي أبرز التعليقات السياسية فور انتشار خبر توقيف سلامة، كان قول رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في تصريح صحافي إنّ "القضاء يقوم بواجبه وجميعنا تحت سقف القانون"، مشيراً إلى أنّ "التوقيف قرار قضائي ولن نتدخل فيه"، علماً أنّ ميقاتي تعرّض سابقاً لهجوم عند ردّه على مسألة إقالة حاكم مصرف لبنان، بأنه "خلال الحرب لا يمكن تغيير الضباط"، وكان مع مسؤولين سياسيين وحتى مراجع دينية، يضعون "خطّاً أحمر عليه".
وكانت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، قد وضعت يدها على ملفات المصارف، وحاكم البنك المركزي "سابقاً" رياض سلامة، وأصدرت مذكرة إحضار بحقه، بيد أنها تعرضت لهجوم سياسي كبير، قبل كفّ يدها قضائياً، وتوجيه كتب إلى القضاة بعدم تلبية أي طلب موجّه منها، وإلى قوى الأمن الداخلي بالتوقف عن أخذ الإشارات منها.
على ذمة التحقيق
بدأت القصة بإصدار المدعي العام للتمييز، القاضي جمال الحجار، أمس، قراراً بتوقيف سلامة على ذمة التحقيق في قضايا اختلاس أموال بقيمة تفوق أربعين مليون دولار أميركي، بحيث كان من المتوقع أن يبقى أربعة أيام، قبل تحويله إلى قاضي التحقيق الذي سيضع يده على الملف، ويصدر القرار بشأنه.
ومن جانبه، قال مصدر قضائي لـ"العربي الجديد" اليوم: "ختم التحقيق بملف رياض سلامة وتمت إحالته على قاضي التحقيق الأول في بيروت ومن المتوقع أن يبقى موقوفاً احترازياً حتى موعد الجلسة". ومن الملفات التي تركز التحقيق فيها مع سلامة في الجلسة التي استمرت لساعاتٍ، الصفقات التي حصلت بين شركة "أوبتيموم" الوارد اسمها في التدقيق الجنائي، والبنك المركزي لناحية عمليات شراء وبيع سندات خزينة، وقد أظهر تقرير التدقيق وجود حساب العمولات لدى مصرف لبنان الذي يظهر فيه تحويل مبلغ 111.3 مليون دولار إلى حسابات مصرفية مفتوحة لدى ستّة بنوك وحساب مصرفي سويسري، وقد جرت تغذية هذا الحساب من العمولات على الهندسات المالية، وذلك في الفترة بين 2015 و2020.
وأفاد مصدرٌ قضائي "العربي الجديد" بأنّ "هناك سرية كبيرة على صعيد التحقيقات، ولا يمكن البوح بها، لكن سلامة سيبقى موقوفاً لأيام قليلة، وذلك رهن التحقيق، أي إنه لا حكم نهائياً صدر بتوقيفه، وعلى قاضي التحقيق الذي سيحال عليه أن يقرر ما إذا كان يصدر مذكرة توقيف بحقه أو لا"، لافتاً إلى أنّ "استجواب سلامة شمل ملفات مصرفية ومالية ارتبط اسمه بها في ظل وجود شبهات فساد قوية تحوم حوله، وقد جاء قرار المدعي العام للتمييز بناءً على معطيات ومستندات وتحقيقات واسعة وطويلة".
في الإطار، يقول الناشط الحقوقي المحامي جاد طعمة لـ"العربي الجديد"، إنّ أحداً في مجتمع العدلية من محامين وقضاة، ما كان يتوقع توقيف سلامة، خصوصاً أنه طُلب لأكثر من مرّة إلى الاستجواب وخضع له وتقرّر تركه وإخراجه "معزّزاً مكرّماً"، ما يدفع إلى طرح تساؤلات عدّة عن خلفيات القرار، لكن بطبيعة الحال، عندما يُصار إلى توقيف المهندس المالي لأعضاء النادي السياسي في لبنان يعني ذلك رفع الغطاء عنه بالتوافق إلّا إذا كان هناك إرهاصات أو بدايات تظهر لخلاف كبير بين أعضاء النادي السياسي.
وحول الشكوك المرتبطة بنية تعطيل التحقيق الأوروبي، وهو يبقى أحد الاحتمالات القائمة، يوضح طعمة أن توقيف سلامة في لبنان يؤدي إلى ردّ أي طلب استرداد ممكن أن يرِد إلى النيابة العامة، باعتبار أنه أصبح ملاحقاً في لبنان، علماً أنه رغم وجود اسمه على النشرة الحمراء الصادرة عن الإنتربول، إلا أنه كان هناك تجاهل لهذه المسألة، وقد يكون قد جرى تسريب أن إحدى الجهات القضائية الأوروبية كانت بصدد تسجيل طلب استرداد رسمي لدى النيابة العامة التمييزية، ما قد يتسبب بحرج كبير.
ويردف طعمة: "في محاولة لفهم التحليل السياسي، لا يمكن إلّا الوقوف عند مسألة في غاية الأهمية تتمثل بالخطة الحكومية التي تحاول أن تركن إلى تصفير الحسابات، وبالتالي، تحميل كامل المسؤولية لحاكم المصرف المركزي السابق، وإعفائها عن القطاع المصرفي والدولة اللبنانية، فيكون بذلك رياض سلامة ونتيجة هندساته المالية كبش فداء، وهو ما يرفع أيضاً الحرج عن مجلس النواب الذي حاول بدوره تمرير كابيتال كونترول ولم يفعل وهو عاجز عن إقرار تشريع بما يخص أموال المودعين".
قرار استباقي
وشكك عددٌ من السياسيين بخلفيات توقيف سلامة في هذا التوقيف بالذات، وما إذا كان لذلك علاقة بالتحقيقات الدولية الأوروبية معه، إذ سأل النائب جميل السيد: "هل نصدّق؟! ولماذا شرب القاضي اليوم حليب السباع وأمر بتوقيفه بينما كان سلامة حتى الأمس القريب تحت الحماية السياسية والأمنية التابعة للقوى الطائفية الكبرى في البلد؟! هل توقيفه في لبنان جاء استباقاً لطلب توقيفه لصالح الإنتربول وترحيله موقوفاً إلى أوروبا، على اعتبار أن السيادة القضائية للدولة اللبنانية على مواطنيها تعلو السيادة الدولية بما سيمنع تسليمه للخارج قانوناً؟! ولأنّ كل الاحتمالات واردة، والقضاء اليوم تحت مجهر الناس".
وأضاف: "المطلوب العدالة كلها والحقيقة كلها والشركاء كلهم، وليس مطلوباً الانتقام من رياض سلامة كشخص أو تقديمه كبش محرقة عن عصابة الدولة، سننتظر ونرى".
من جهته، قال النائب مارك ضو: "بسبب الملف الذي حضّرته المدعي العام لجبل لبنان القاضية غادة عون، استطاع المدعي العام توقيف أكبر المسؤولين عن الجرائم المالية بلبنان. أفضل خطوة هي تحويل سلامة لتقوم غادة عون بالتحقيق معه بالدعاوي المقامة ضده. إلا إذا كان هدف التوقيف شكلياً لأربعة أيام فقط للشعبوية. لنرَ إذا كان المدعي العام يريد العدالة كاملة أو دخل في حركات إعلامية سياسية تضامن القضاة يحقق العدالة باسم الشعب".
بدورها، قالت غادة عون: "بالتأكيد حدث تاريخي توقيف رياض سلامة ولكن حدث لا بد من استكماله حتى يصدق الشعب اللبناني أنّ عملية مكافحة الفساد قد بدأت بالفعل في لبنان"، لافتة إلى أنّ "النيابة العامة في جبل لبنان أصدرت عشرات مذكرات الإحضار بحق رياض سلامة في ملف قروض التسعة مليارات دولار بقيت للأسف دون تنفيذ من قبل الأجهزة الأمنية حتى تاريخه، أم حان الآن تنفيذها يا حضرة المدعي العام للتمييز؟ وما الذي يمنع إحضاره إلى بعبدا لاستجوابه في هذا الملف وهو موقوفٌ الآن".
وأضافت: "هناك أيضاً ملف المائة مليون دولار موضوع تقرير ألفاريس أند مارسال (التدقيق الجنائي) الصفحة 95 الذي أحقق فيه مع المصارف المعنية في التحويلات إلى "مجهول" حسب التقرير، فما الذي يمنع من إحضاره وهو موقوفٌ الآن لاستجوابه".
وتابعت: "هناك أيضاً ملف الثمانية مليارات دولار قيمة العمولات في ملف أوبتيموم التي دخلت في الحساب الاستشاري في مصرف لبنان وطالما هو موقوفٌ الآن ما الذي يمنع من إحضاره إلى بعبدا لاستجوابه يا حضرة المدعي العام للتمييز؟ على أمل أن تصفو النيات... وحتى لو لزم الأمر لدواعٍ أمنية أنا مستعدة للتوجه حيث هو موقوفٌ الآن لاستجوابه، على أمل أن تصفو النيات وينتصر العدل".
وفي وقت متأخر مساء الأربعاء، أعلنت شركة أوبتيموم إنفست في بيان نقلته رويترز، أنها تتعاون مع السلطات القضائية اللبنانية في تحقيقها مع سلامة، وقالت إن تعاملاتها مع مصرف لبنان كانت تتم "في إطار الالتزام الكامل بالقوانين واللوائح".
وفي 31 يوليو/تموز الماضي، انتهت ولاية سلامة، وتسلّم نائبه الأول، وسيم منصوري، صلاحياته بالإنابة في ظلّ الشغور بموقع رئاسة الجمهورية، مغادراً بذلك "عرش الحاكمية" الذي تربّع عليه منذ عام 1993، وجعله من أطول حكام العالم شغلاً للمنصب، وفي جعبته اتهامات داخلية وخارجية بجملة جرائم مالية، مع تحميل سياساته النقدية مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي غير مسبوق تاريخياً منذ أواخر عام 2019.
وفرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا عقوبات على سلامة، ونجله، نادي، وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، وصديقته أنا كوزاكوفا، الذين ساعدوا رياض سلامة في إخفاء النشاط الفاسد وتسهيله، بحسب تعبير وزارة الخزانة الأميركية، التي قالت أيضاً إن أنشطة سلامة الفاسدة وغير القانونية ساهمت في انهيار دولة القانون في لبنان.
وكانت الدولة اللبنانية ممثلة برئيسة هيئة القضايا، القاضية هيلانة إسكندر، قد طلبت توقيف سلامة، ورجا، وماريان، كذلك تمّ الحجز الاحتياطي على ممتلكاته، وقد خضع للاستجواب أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل أبو سمرا، وتركه رهن التحقيقات من دون أن يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه، بينما اكتفى بحجز جوازي سفره، اللبناني والفرنسي، وأصدر قراراً بمنعه من السفر.
وخضع رياض سلامة للتحقيق الأوروبي في لبنان، بحيث جرى الاستماع إليه في بيروت، تحت أنظار القضاء اللبناني وإدارته، باعتبار أنه وشقيقه رجا محور تحقيقات في خمس دول أوروبية على الأقل، بتهم مالية، وسبق أن أصدرت السلطات الألمانية مذكرة اعتقال بحقه بتهم الفساد قبل إلغائها لاحقاً من قبل النيابة العامة في ميونخ.