استمع إلى الملخص
- **التحديات والمخاوف الأمنية**: النرويج وحلفاؤها في الناتو حذرون من تسليم بكين السيطرة على المرافق الحيوية، خاصة مع التوترات الجيوسياسية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
- **الاستثمارات الصينية والتطورات المستقبلية**: الصين تعتبر القطب الشمالي "حدودًا جديدة" وتسعى لتعزيز التعاون لتطوير طرق الشحن، مع استمرار إرسال سفن عبر طريق البحر الشمالي.
تسعى الصين إلى الاستحواذ على ميناء كيركينيس النرويجي الواقع على القطب الشمالي في محاولة منها للوصول بصادراتها إلى شمال أوروبا وأميركا الشمالية عبر طريق مختصر يوفر لها أسابيع ونفقات المرور عبر قناة السويس في مصر أو طريق رأس الرجاء الصالح حول قارة أفريقيا.
ومع ذوبان الجليد وزيادة قابلية طرق الشحن في القطب الشمالي للاستمرار لمدد زمنية أطول خلال الصيف، تقدم بلدة كيركينيس النرويجية نفسها بصفتها محطة توقف رئيسية لحركة المرور المستقبلية من الصين وموطءَ قدم لبكين على القطب الشمالي. وتقع كيركينيس، بين فنلندا وروسيا على بعد 250 ميلاً إلى الشمال من الدائرة القطبية الشمالية، بالقرب من مدخل الطريق البحري القطبي الأكثر قابلية للتطبيق والذي يربط الصين بأوروبا.
ووفقاً لتقرير نشرته وكالة "بلومبيرغ" ليل الجمعة-السبت، فإن "الصين درست خيارات لبناء ميناء في الطرف الغربي من طريق البحر الشمالي، وهو ممر رئيسي في طريق الحرير القطبي المقترح. وباعتبارها أقرب بلدة تتمتع بإمكانية الوصول غير المقيد إلى الأسواق الأوروبية، فإن كيركينيس هي المحطة المنطقية الأولى للسفن الصينية بمجرد مغادرتها المياه الروسية".
ويتكون نادي القطب الشمالي أو الدولة المطلة على المحيط المتجمد الشمالي من 8 دول من بينها روسيا، بينما الدول السبع الأخرى ومنها النرويج أعضاء في حلف شمال الأطلنطي-ناتو- لكن أدى تغير المناخ في المنطقة إلى فتح الباب أمام الشركات والحكومات التي تبعد عن المنطقة ومنها الصين إلى السعي للاستثمار فيها. وأبدت شركات صينية رغبتها في المساعدة على تحويل كيركينيس إلى أكبر ميناء في شمال أوروبا. لكن النرويج وحلفاءها حذرون من تسليم بكين أي سيطرة على المرافق التي قد تكون حاسمة للتجارة وحتى الأغراض العسكرية بحسب بلومبيرغ.
من جانبها، تصنف بكين القطب الشمالي ضمن "الحدود الجديدة" التي ترى فيها فرصًا للتأثير في المستقبل، إلى جانب أعماق البحار والفضاء الخارجي والفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي. وقالت وزارة الخارجية الصينية ردًّا على أسئلة بلومبيرغ إن البلاد ستكون على استعداد لتعزيز التعاون مع الدول الإقليمية لتعزيز تطوير طرق الشحن في القطب الشمالي واستخدامها وحمايتها بيئيًّا. وأضافت أنه "في ما يتعلق بالتعاون الصيني النرويجي في مجال الموانئ، فإن البلاد سعيدة برؤية شركاتها "تعزز التعاون مع النرويج ودول أخرى في مشاريع الاتصال مثل النقل والشحن".
القطب الشمالي منطقة منافسة مستقبلية
وقال باتريك أندرسون، المحلل في المركز الوطني السويدي لدراسات الصين، إن " بكين تنظر إلى القطب الشمالي بوصفها منطقة مستقبلية للمنافسة بين القوى العظمى، ومنطقة لم تتشكل فيها المعايير والقواعد العالمية بشكل كامل بعد".
من جانبه أكد مدير ميناء كيركينيس تيرجي يورغنسن طرق الصينيين باب الاستثمار في اليمناء منذ عام 2022 ، مشيرًا إلى أن الزوار الصينيين يشملون "وفودًا تجارية، ومصنعي سيارات، ومصنعي آلات ثقيلة، ومصنعي منسوجات، وشركات طاقة". وقال إن جميعهم جاؤوا على أمل توسيع ميناء كيركينيس للتعامل مع نقل البضائع الدولية. وكان تحقيق ذلك على رأس أولويات يورغنسن منذ توليه المنصب في عام 2021، إذ قال: "نحن نحاول بناء أكبر ميناء متعدد الجنسيات لإعادة شحن البضائع في شمال أوروبا"، مشيرًا إلى أن الميناء قادر على التعامل مع أكثر من مليون حاوية شحن بطول 20 قدمًا من البضائع سنويًّا خلال حياته.
وقال إنه في عام 2022، أعربت شركة الصين للإنشاءات والاتصالات (CCCC) عن استعدادها للمساهمة في توسيع الميناء الذي تبلغ تكلفته حوالي ملياري دولار، مؤكدا أنه لكي يمضي أي استثمار من هذا القبيل قدمًا، تحتاج الحكومة النرويجية أولًا إلى توفير المزيد من الوضوح بشأن القواعد المنظمة لذلك. بينما رفضت الحكومة، التي يتوجه رئيس وزرائها إلى بكين الأسبوع المقبل، تأكيد ما إذا كانت قد رفضت مقترح الشركة الصينية للمساعدة في تطوير الميناء.
ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والاتهامات الموجهة إلى الصين بدعم روسيا أو الصمت حيال حربها، بات الموقف الغربي ومنه النرويجي أكثر تشددًا حيال استثمارات الصين ومنها خططها للقطب الشمالي وميناء كيركينيس، وهو ما دفع الوفود الصينية إلى خفض توقعاتها بشأن الميناء، حيث أعربت عن اهتمام أكبر بإمكانات التجارة والتصنيع في كيركينيس، بدلًا من تمويل الميناء، وبات المطروح حاليًّا وفقًا ليورغنسن تفريغ البضائع من السفن القادرة على تحمل الجليد على سفن الشحن العادية لنقلها إلى ما بعد ذلك، أو الانتهاء من البضائع في كيركينيس لشحنها مع علامة صنع في أوروبا. ولكن الأخير يتطلب توسيع الميناء وقبل أن يحدث ذلك، تحتاج أوسلو وفقًا ليورغنسن إلى توضيح موقفها من استحواذ الصين على الميناء، أو ما هي مرافق البنية التحتية التي تمنع الصين من الاستثمار أو الاستحواذ عليها وفقًا لقوانين الأمن القومي.
الإبحار عبر القطب الشمالي حيوي للصين
أما الصين، فإن البعد الجغرافي للاستثمار في القطب الشمالي لا يقبل الجدل، ومع تراجع الجليد، يصبح الأمر أكثر وضوحًا: فطريق البحر الشمالي يختصر أسابيع من طرق الشحن التقليدية مقارنة بالملاحة إلى أوروبا عبر قناة السويس أو حول القرن الأفريقي. يقول يورغنسن: "عليك أن تنظر إلى القارات الثلاث لترى الفوائد من منظور بيئي ومالي. إن المسافة من كيركينيس إلى الساحل الشرقي لكندا والولايات المتحدة تشكل جزءًا كبيرًا من هذه الصورة".
في السنوات الثماني التي تلت إرسال شركة كوسكو، أو شركة الشحن البحري الصينية، لأول رحلة عبور عبر طريق البحر الشمالي في عام 2013، أرسلت الشركة 26 سفينة في 56 رحلة، بما في ذلك 14 رحلة في عام 2021 وحده، وفقًا لعرض قدمه العام الماضي فينج تشين، أستاذ زائر في مركز أبحاث أيسلندا الصيني بجامعة جينان.
لكن بعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، توقفت هذه الممرات، كما يقول ناتسوهيكو أوتسوكا، الأستاذ السابق في مركز أبحاث القطب الشمالي بجامعة هوكايدو، فالحساسية السياسية لاستخدام الطريق الروسي قد تردع الشركة الصينية الآن، لكنها تمتلك القدرة على زيادة الرحلات بسرعة عندما يحين الوقت المناسب. وقال عن شركة كوسكو: "إنهم يفكرون على المدى البعيد. إنهم ينتظرون الوقت الذي تصبح فيه الظروف الجيوسياسية الدولية - وظروف الجليد البحري في القطب الشمالي - أكثر جدوى". وأضاف أن وجود النرويج جزءًا من السوق الأوروبية الأوسع من دون أن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي قد يوفر مزايا أخرى للشركات المصنعة الصينية الحريصة على إنشاء متاجر، حيث يمكنهم التحايل على بعض التشريعات الأكثر صرامة في الكتلة مع الاستمرار في القدرة على وضع علامات على السلع على أنها مصنوعة في أوروبا.
في عام 2023، أرسلت شركة الشحن الصينية "NewNew" أربع سفن حاويات على طول طريق القطب الشمالي بين يوليو/تموز ونوفمبر/تشرين الثاني، وسجلت ما مجموعه سبع رحلات عبور من الموانئ في شرق آسيا إلى سانت بطرسبرغ، وفي العام نفسه، ساعدت البحار الدافئة روسيا في إرسال أول سفينة غير جليدية، محملة بخام الحديد، عبر الممر من مورمانسك إلى الصين.
أدت التطورات في أوكرانيا إلى تفاقم مخاوف حلف شمال الأطلسي بشأن التعاون بين روسيا والصين في المنطقة. وهذا سبب آخر يجعل ما يسمى الدول السبع القطبية الشمالية - الدول الساحلية، باستثناء روسيا - أكثر برودة تجاه مبادرات الصين في منطقتها، حيث تم إحباط محاولات متعددة من قبل شركات مملوكة للدولة الصينية لشراء أصول القطب الشمالي، بما في ذلك محاولات الاستثمار في المطارات والمعادن النادرة في غرينلاند، ومنجم ذهب في كندا.
ورغم أن الصين وروسيا تظلان حذرتين كلٌّ منهما بالأخرى من الارتباط الشديد، لكنهما طورتا مع ذلك "نوعًا من الاعتماد المتبادل"، كما يقول أندرسون، حيث تعتمد روسيا بشكل متزايد على التمويل الصيني لمشاريع القطب الشمالي - المتعلقة في المقام الأول بعمليات النفط والغاز في يامال الروسية - وتعتمد الصين بشكل متزايد على روسيا للوصول إلى القطب الشمالي.
ويرى يورغنسن، مدير ميناء كيركينيس، أن وجود ميناء أوروبي في نهاية طريق البحر الشمالي من شأنه أن يوفر مزيدًا من الرؤية لما يتم شحنه عبر الممر من قبل الصين وكل شخص آخر، فضلاً عن القدرة على فرض معايير السلامة والبيئة الأوروبية على السفن التي تريد الرسو هناك. ويقول إن نقل البضائع عبر ميناء كيركينيس النرويجي أفضل كثيراً من ميناء مورمانسك الروسي القريب، الذي كانت الصين تفضله قبل حرب أوكرانيا، ومن الأفضل لكيركينيس أن تجني الأرباح. ويضيف: "لا ينبغي أن تشكل التجارة مع الصين مشكلة. إنها مجرد مسألة كيفية القيام بذلك".
الاستثمارات شريان حياة في كيركينيس
تعد مدينة وميناء مومانسك الروسي أقرب مدينة كبيرة إلى كيركينيس، فهي على بعد ثلاث ساعات بالسيارة، بينما تستغرق الرحلة إلى أوسلو نحو 24 ساعة. وبموجب اتفاق يسمح لأولئك الذين يعيشون بالقرب من الحدود بالسفر ذهابًا وإيابًا بتأشيرة خاصة، جاء الروس إلى كيركينيس لشراء الحفاظات وإصلاح القوارب، بينما اشترى سكان كيركينيس البنزين في روسيا، لكن منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، تم تقليص حرية الحركة تدريجيًّا، حيث كان التأثير على المدينة التي يبلغ عدد سكانها 3600 نسمة عميقًا، ولهذا السبب يُنظر إلى تطوير الميناء، والعلاقات الوثيقة مع قوة عظمى أخرى، على أنها شريان حياة.
وقال عمدة المدينة ماغنوس مايلاند، إن كيركينيس "في بؤرة جيوسياسية عالمية ساخنة"، مشيراً إلى أن عشرات الممثلين من روسيا والولايات المتحدة والصين وأوروبا زاروا مسؤولي المدينة على مر السنين. وأضاف مايلاند أن" الصين دولة استبدادية، ولكنها تفكر أيضاً في المستقبل بمائة عام، وتنتج أغلب السلع التي يستخدمها الناس، ولا يمكن تجاهلها. وإذا انتظرت النرويج ثلاثين عاماً لتقرر كيف تتعامل مع الصين، فسوف تتفوق عليها دول أخرى أكثر رشاقة. "إن العالم عالمي، سواء أحببنا ذلك أم لا".
وقال الرئيس التنفيذي نيلز روين لشركة "High North" والرئيس التنفيذي السابق لغرفة تجارة كيركينيس بعد لقائه مسؤولي شركة كوسكو في هلسنكي: "إنهم مقتنعون بأن طريق البحر -المحيط القطبي-الشمالي قادم لا محالة"، مضيفاً أنهم " يحاولون الوصول إلى أفضل وضع ممكن للتجارة في العالم الذي نعيش فيه الآن".
وقدم يورغنسن، عرضاً تقديمياً حول إمكانات ميناء كيركينيس في الاجتماع ذاته، لكنه قال إن المناقشات سوف تحتاج إلى أن تتم على مستويات أعلى كثيراً من الحكومة قبل أن تتمكن المدينة من أن تكون جزءًا من التنمية الوشيكة للقطب الشمالي والتي يراها أمرًا لا مفر منه، مؤكدًا أن " المرور عبر طريق البحر الشمالي قادم لامحالة، وإن لم يُحسم في أوسلو -النرويج- أو بروكسل -الاتحاد الأوروبي- أو واشنطن- الولايات المتحدة-".