خطة "المركزي المصري" للشهور المقبلة

24 مايو 2023
البنك المركزي المصري (فرانس برس)
+ الخط -

عندما وافق صندوق النقد الدولي على إقراض مصر 3 مليارات دولار، كان الاتفاق أن تحصل على القرض على أقساط على مدار السنوات الأربع القادمة، حتى تكون هناك فرصة للصندوق لمتابعة التزام مصر بالشروط التي تعهدت بتنفيذها قبل صرف كلّ قسط.

لكن يبدو أن الحكومة المصرية لم تلتزم بالتنفيذ، حيث تمسكت بسياسة تثبيت سعر الجنيه المصري مقابل الدولار حتى الآن، بعد تخفيض واحد مطلع العام الحالي، ولم تتمكن من بيع حصتها في قائمة من الشركات أعلنت عنها، باستثناء ما يقرب من 10% من الشركة المصرية للاتصالات، وشركة باكين للبويات، بإجمالي قيمة للصفقتين لا يتجاوز 150 مليون دولار.

أيضاً لم تتمكن الحكومة من فتح المجال للقطاع الخاص، وتخفيف قبضة مؤسسات الدولة على الاقتصاد، كما تعهدت للمؤسسة الدولية. والشهر الماضي، سجل المؤشر الذي يقيس نشاط القطاع الخاص غير النفطي في البلاد تراجعاً للشهر التاسع والعشرين على التوالي.

كانت النتيجة أن الصندوق لم يصرف الدفعة الثانية من القرض، ولم يرسل فريقه لمتابعة الالتزام المصري بالتعهدات، حيث كانت الصورة واضحة للجميع، وقيل إن زيارة فريق الصندوق تأجلت إلى شهر يوليو/تموز المقبل. يقول بعض المتابعين القريبين من السلطات النقدية والمالية في البلاد إن البنك المركزي يرغب في تأجيل أي تخفيض جديد في قيمة العملة المصرية إلى ما بعد نهاية السنة المالية في الثلاثين من يونيو/حزيران، حتى لا تكون هناك تأثيرات سلبية على الموازنة العامة، في وقت تسعى فيه الحكومة لتخفيض العجز ليصبح 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وإذا ما كان البنك المركزي يرغب فعلاً في اتباع هذا المسار، من دون التسبب في المزيد من التراكم للبضائع في الموانئ، انتظارا لتوفير المقابل الدولاري، أو وصول السعر في السوق الموازية لمستويات عليا جديدة، فلا بد أن يكون لديه ما يكفي من الدولار لتلبية الاحتياجات الأساسية خلال فترة تقترب من الأربعين يوماً، تفصل بيننا وبين السنة المالية الجديدة.

الأرقام المتداولة تشير إلى تمكن البنك المركزي من الحصول على أربعة مليارات دولار إضافية من إيرادات السياحة، بالإضافة إلى مليار دولار أخرى من مبادرة استيراد سيارات المقيمين بالخارج، وهو ما قد يسهل مهمة البنك المركزي خلال الأربعين يوماً القادمة.

لكن يبقى السؤال هنا عن الخطوة التالية، أي اعتباراً من بداية السنة المالية الجديدة، والتي يفترض وفقاً لتلك التوقعات، التي أيدها تقرير حديث صادر عن "سيتي بنك" أن تشهد تخفيضاً جديداً في قيمة الجنيه، من ناحية لمحاولة سد الفجوة بين بالعرض والطلب على العملة الأجنبية، ومن ناحية أخرى أملا في اجتذاب الأموال الخليجية لشراء حصة الحكومة المصرية في الشركات التي تم الإعلان عن تخارج الحكومة منها.

ومرة أخرى تجد الحكومة المصرية نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات استثنائية، تسمح لها بتدبير بضعة مليارات من الدولارات، غالبا من خلال بيع الأصول المصرية، تحصل بها على قبلة حياة تنقذها لأشهر قليلة، ثم لتعود الأزمة بعدها بصورة أكثر حدة، بينما نكون قد دفعنا التكلفة من الاستغناء عن الأصول، وأيضا من خلال حشر المزيد من المصريين تحت خط الفقر، بعد الإضعاف المتتالي للعملة المصرية.

هذا السيناريو تكرر عدة مرات خلال الخمسة عشر شهرا الماضية، ولم يقربنا حتى الآن من حل أزمة الدولار في مصر، حيث ما زالت السوق الموازية نشطة، يرتفع فيها سعر الدولار في أغلب الأوقات، ولا ينخفض إلا قليلا، وفي حالات نادرة، وهو ما شجع غير القادرين على شراء العملة الأجنبية على التوجه بأموالهم إلى سوق الذهب بأشكالها المختلفة.

وللأسف الشديد تناست الحكومة المصرية المشكلة الحقيقية، المتمثلة في ضعف الموارد من العملة الأجنبية واستمرار عجز الحساب الجاري، واتجهت بالعديد من القرارات الجديدة نحو محاولة كبح جماح ارتفاع أسعار الذهب، وكأنه مطلب جماهيري في بلد يقترب أكثر من ثلثي سكانه من خط الفقر.

والعجيب والمحزن في ذات الوقت، هو أن الإجراءات التي اتخذت للنزول بأسعار الذهب في السوق المصرية لم تؤت أكلها إلا قليلا، بينما تشير التوقعات إلى تأثيرات شديدة السلبية لها، حيث يتوقع أن تتسبب في المزيد من الطلب على العملة الأجنبية خلال الفترة القادمة.

إذاً نحن على مسار واضح نحو بيئة يزداد فيها الطلب على الدولار في مصر، سواء من خلال محاولات الحكومة "مساعدة المصريين" على الاستثمار في الذهب، كما الإضافات المتتالية للدين الخارجي، والتي تسبب ارتفاع الفائدة المستحقة كل عام بالعملة الأجنبية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تقل الأصول التي لدينا، والتي اعتدنا أن نلجأ لبيعها حتى نتمكن من سداد التزاماتنا الدولارية. ويحدث كل ذلك دون أن ننجح في تخفيض عجز الحساب الجاري، أو عجز الميزان التجاري، وهما أصل الداء، والسبب الرئيسي في تراجع قيمة الجنيه خلال أكثر من خمسة عقود على أقل تقدير.

نكرر السياسات التي تسببت في حدوث الأزمات في البلاد، ثم نعجب من تكرار الأزمات، ونتبع نفس أدوات الحل المؤقتة، ثم ننتظر تغيراً في النتائج، وهذا لا يصح.

لن تحل أزماتنا إلا من خلال تقليص عجز الميزان التجاري، وهو ما يتطلب فرض قيود شديدة على الواردات، أو إحداث زيادة كبيرة في الصادرات، والأخيرة لن نتمكن من تحقيقها رغم المحاولات المضنية على مدار السنوات السابقة، الأمر الذي يضعنا أمام اختيار وحيد، وهو الحد من الاستيراد.

هذه الخطوة ضرورية وعاجلة، وإن لم نفعلها باختيارنا، وفي السلع أو الخدمات التي يمكننا التوقف عن استيرادها، فانتظروا يوماً تفرض علينا فيه، ولن يكون لنا وقتها حرية اختيار ما نتوقف عن استيراده، وقد يطاول وقتها قمحاً أو لحماً أو وقوداً أو سلعاً وسيطة لا غنى عنها، وتؤكد تجارب العديد من الدول أن التأخر في اتخاذ هذه الخطوة يزيد من صعوبتها، ويجعل تكلفتها أكثر إيلاماً!

المساهمون