مع ساعات الفجر الأولى يتوافد مئات المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة يومياً منذ بداية الحرب الإسرائيلية الجارية إلى المخابز لانتزاع كميات من الخبز تكفيهم لسد رمقهم هم وعوائلهم، في ضوء الحصار الإسرائيلي الذي شدده الاحتلال بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وتشهد عشرات المخابز المنتشرة في مختلف المدن في القطاع توافداً لمختلف الفئات العمرية من الرجال والنساء للحصول على كميات بسيطة من الخبز، لدرجة أن البعض بات يطلق على ما يحصل في هذه العملية "معركة انتزاع الخبز".
وتبدأ المخابز عملها يومياً في وقتٍ مبكر، في ما تغلق أبوابها وتلجأ للاعتماد على أسلوب "الطوابير" المتتابعة في عملية التوزيع، حيث يلجأ البعض الآخر من المخابز لتوزيع أرقام تسلسلية على الموجودين أمامها لترتيب عملية التوزيع ومنع أي تزاحم أو حدوث إشكاليات.
ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري فرضت سلطات الاحتلال عبر الحكومة التي يترأسها بنيامين نتنياهو سلسلة إجراءات أطبقت من خلالها الحصار المفروض على القطاع، وتمثلت بإغلاق المعابر الحدودية بشكلٍ تام وقطع التيار الكهربائي ومنع إدخال الوقود أو السلع الغذائية والتموينية وقطع المياه.
ويعاني القطاع بالأساس من حصار مشدد منذ أن فرض عام 2006 في أعقاب صعود حركة حماس في الانتخابات التشريعية، وإحكامها سيطرتها على غزة منتصف 2007، ما سبّب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانعدام نسبة الأمن الغذائي، وارتفاع مستوى الاعتماد على المساعدات الدولية.
ويعتبر الخبز من السلع الرئيسية بالنسبة إلى الفلسطينيين في القطاع، ولا سيما في الوجبات الرئيسية، وهو ما يدفع نحو الاعتماد عليه من المخابز، في ظل صعوبة إعداده في البيوت خلال الفترة الحالية، نظراً لانقطاع التيار الكهربائي، وعدم توافر الغاز الطبيعي.
وسبّب نقص الوقود خروج عدد من المخابز من الخدمة، لاعتمادها على مولدات تعمل بالسولار، فيما الغالبية العظمى من المخابز لا تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية، نظراً لقلة المواد الخام اللازمة من دقيق (طحين) وغيره من المستلزمات.
كذلك تواجه الكثير من المخابز معضلة في عملية التشغيل، نظراً لتخوف العاملين من العمل في الفترة المسائية بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل على القطاع للأسبوع الثالث على التوالي ضمن ما يطلق عليه الاحتلال الإسرائيلي عملية "السيوف الحديدية".
وبالفعل، قصفت طائرات الاحتلال في وقت متأخر من مساء الثلاثاء المخبز الوحيد في مخيم المغازي وسط القطاع، الذي زودته أونروا بالدقيق قبل ساعات من قصفه، ما أدى إلى استشهاد 10 مواطنين وإصابة آخرين.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أمس الأربعاء، إن المخبز كان يوفر الخبز لعشرات الآلاف من سكان المخيم والنازحين إليه، مؤكداً أن الصواريخ دمرت المخبز بالكامل، وخلّفت مكانه حفرة كبيرة، بالإضافة إلى هدم عدد من البيوت المحيطة.
في الأثناء، يقول رئيس جمعية أصحاب المخابز، عبد الناصر العجرمي، إن الواقع الذي تمرّ به المخابز في القطاع لم يسبق له مثيل على مستوى الأراضي الفلسطينية، نظراً للمخاطر الجمّة التي تواجه العمل في هذا القطاع والتحديات غير المسبوقة وحالة النقص في المواد الخام.
ويضيف العجرمي لـ "العربي الجديد" أن 7 مخابز خرجت عن الخدمة بشكلٍ تام خلال الأيام الماضية، فيما تعمل قرابة 60 أخرى بطاقة إنتاجية لا تزيد على 60% إلى 70% من طاقتها الإنتاجية، وهو ما يفتح المجال لخروج المزيد من المخابز عن الخدمة.
ويشير إلى أن النقص الشديد في المواد الخام هو السبب الرئيسي وراء الحالة القائمة حالياً، إلى جانب خشية الناس من تداعيات العدوان الإسرائيلي، وهو ما يدفعهم إلى التكدس بالمئات يومياً أمام مختلف المخابز المنتشرة في القطاع للحصول على كميات من الخبز.
ووفق رئيس جمعية أصحاب المخابز في غزة، فإن الأيام الماضية شهدت اتفاقاً جرى بين المخابز ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ينص على منح الدقيق للمخابز مجاناً مقابل خفض سعر "ربطة" الخبز التي يبلغ وزنها 3 كيلوغرامات، لتصبح بقيمة 4 شواكل (الدولار=4.06 شواكل إسرائيلية).
ويلفت إلى أن هذا الاتفاق طُبِّق في مناطق وسط القطاع وجنوبه، وسيُطبَّق في بقية المناطق على مستوى مدينة غزة والشمال، وهو ما من شأنه أن يحدّ من الإشكاليات التي تواجه عملية صناعة الخبز منذ بداية الحرب الإسرائيلية الجارية على القطاع .
وخلال الفترات السابقة، بلغ سعر ربطة الخبز التي يبلغ وزنها 3 كيلوغرامات 8 شواكل، حيث مرت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بسلسلة من الارتفاعات والانخفاضات على مستوى السعر والوزن، نظراً لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الدقيق.
ويوم السبت الماضي، أكد بيان مشترك صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، و"يونيسف" وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، أن عدداً هائلاً من مرافق البنية الأساسية المدنية في قطاع غزة تعرّض للتلف أو الدمار بسبب القصف الإسرائيلي.
وأشار البيان إلى أن المدنيين يواجهون صعوبات متزايدة في الحصول على الإمدادات الغذائية الأساسية، كذلك فإن الطاقة الإنتاجية للمياه لا تزيد على 5% من الطاقة العادية.
وأكدت المنظمات أنه "كان ما يقرب من ثلث سكان فلسطين يعانون من انعدام الأمن الغذائي. واليوم، نفدت البضائع تقريباً من المحالّ التجارية، وأغلقت المخابز، ونزح عشرات الآلاف من البشر ولا يستطيعون الطهو أو شراء الطعام بأمان".
ويعتمد القطاع بدرجة أساسية على قرابة 80% من الدقيق الذي توفره وكالة "أونروا" وبقية المؤسسات الإغاثية العاملة في القطاع، فيما يُستَورد الباقي من الخارج، سواء من السوق الإسرائيلية، أو عبر بوابة صلاح الدين مع مصر.