"أسأل ببساطة ومن الآخر: من أين تدخل المحروقات لتباع بأسعار مرتفعة على الأرصفة ومَن وراءها"، هكذا يبدأ الاقتصادي السوري علي محمد (اسم مستعار)، حديثه لـ"العربي الجديد"، واصفاً معادلة النفط بـ"المعقدة"، لأن دخول النفط إلى سورية قضية وتكريره أحجية ووصوله للشوارع ليباع بسعر خاص ومرتفع مسألة متداخلة.
ولكن، يضيف محمد، أن ثمة تجاراً يعملون برعاية رسمية بعد إيصال المهربين المشتقات النفطية من الحدود اللبنانية ومناطق سيطرة "الإدارة الذاتية"، شمال شرق سورية، إلى المدن، وبرأيه، القصة رابحة وتستأهل المجازفة والعناء، والأهم أنها مغطاة من النظام السوري، وإلا كيف يباع المازوت والبنزين بالشوارع على مرأى ومسمع الجهات الرقابية بوزارة التجارة الداخلية وقوى الأمن لدى نظام بشار الأسد؟
الخريطة النفطية
ويقول الخبير النفطي لـ"العربي الجديد": تبدلّت خريطة إنتاج وعائدات النفط بسورية بعد خروج معظم الآبار ومواقع الإنتاج عن سيطرة نظام الأسد وتهدم آبار وتراجع الإنتاج بسبب قلة الصيانة والتجديد، مبيناً أن إنتاج سورية اليوم يراوح بين 130 و140 ألف برميل، ما يعني الوقوع بعجز يومي بنحو 100 ألف برميل يتم تأمين بعضها من الخارج.
وهذه الأرقام لا تختلف كثيراً عن الأرقام الرسمية، إذ يؤكد وزير النفط بحكومة بشار الأسد فراس قدور أن الإنتاج الذي يقع تحت سيطرة النظام لا يتجاوز 15 ألف برميل يومياً، مضيفاً خلال مشاركته في مؤتمر الطاقة الثاني عشر في الدوحة، الشهر الماضي، أن الإنتاج الإجمالي من الغاز الطبيعي تراجع من معدل 30 مليون لتر مكعب يومياً قبل الثورة السورية إلى نحو 10 ملايين متر مكعب يومياً حالياً.
وحول إنتاج منطقة "الجزيرة السورية" الخارجة عن سيطرة النظام وتتحكم بإنتاجها ما تسمى "الإدارة الذاتية"، فقد أكد مسؤول اقتصادي بالإدارة لـ"العربي الجديد"، إنتاج حقول رميلان نحو 90 ألف برميل وحقول محافظة دير الزور نحو 50 ألف برميل يومياً، كاشفاً خلال تصريح خاص، أن حصة نظام الأسد من حقول رميلان هي نحو 20 ألف برميل يومياً يتلقاها نتيجة الاتفاق الموقع بينهما (عقد الحماية والخدمات).
ويكشف المسؤول أن استهلاك منطقة "الإدارة الذاتية" لا يزيد عن 60 ألف برميل يومياً يتم تكريره بحراقات بدائية، ليباع الباقي إلى مناطق نظام بشار الأسد "عبر شركة القاطرجي التي تنقله لمصفاة حمص" و"تهريباً" لمناطق شمال غرب سورية الخارجة عن سيطرة الأسد، ويهرب بعضه إلى العراق، مبيناً أن سعر البرميل المباع من مناطق قوات سوريا الديمقراطية يقدر بنحو 15 دولاراً.
كيف تُردم الفجوة بحسب مصادر مسؤولة من مواقع إنتاج النفط، لا تزيد حصة الأسد من مناطق الإدارة الذاتية وما ينتج من مناطق سيطرته (شرقي حمص، وسط سورية)، عن 35 ألف برميل يومياً.
ورغم أن الاستهلاك اليومي بحده الأدنى، حسب الاقتصادي علي محمد، من دمشق، هو نحو 80 ألف برميل (تراجع إلى نصف ما كان عليه قبل عام 2011)، مقدراً استهلاك مناطق سيطرة النظام بنحو مليار وثلاثمئة مليون ليتر سنوياً من البنزين، وربما ضعف الرقم من المازوت عدا الفيول وزيت الكاز وغيرها من المشتقات.
ويتوقع الاقتصادي السوري خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن يكون معظم الفاقد بين الانتاج والاستهلاك يأتي من مناطق "قسد" ولكن خارج التعاقد، والأهم من إيران، مستشهداً بتصريح سابق لرئيس حكومة النظام حسين عرنوس بأن سورية تستورد نحو 3.5 ملايين برميل نفط شهرياً من إيران.
ولكن، يلفت محمد إلى أن إيران تورّد إلى سورية "أكثر من تلك الكمية" فيتم تكريرها بالمصافي السورية (بانياس خاصة، التي رممتها إيران أخيراً)، ويباع من سورية إلى وجهات عدة، أهمها إلى لبنان والأهم، وفق الاقتصادي السوري، يتم بيعه بالأسواق السورية عبر "تجار وعملاء للنظام".
مربط الفرس
وزاد ارتفاع أسعار المحروقات وقلة عرضها وتلكؤ حكومة الأسد بتوزيع مخصصات المستهلكين وفق الأسعار المدعومة نشاط التهريب وبيع المحروقات بأسعار مرتفعة على قارعة الطرق، في حين يحاول الفقراء اللجوء إلى حرق الأخشاب والأقمشة والمواد البلاستيكية لمواجهة برد الشتاء.
وتجاوز سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء 14 ألف ليرة سورية، في حين يصل سعر بعض الأنواع المستوردة لنحو 15 ألف ليرة، وتراوح سعر ليتر البنزين بين 14 و16 ألف ليرة، حسب النوعية واللون، كما تقول مصادر خاصة من العاصمة السورية دمشق.
وتبدو السوق السوداء للنفط الحل الممكن الوحيد أمام السوريين بعد تراجع توزيع مستحقاتهم من المحروقات، إذ يؤكد قيس رمضان، عضو المكتب التنفيذي لقطاع التموين والتجارة الداخلية والمحروقات في محافظة دمشق، أن نسبة توزيع مازوت التدفئة في المدينة وصلت إلى 62 في المائة فقط، واعداً خلال تصريحات باستكمال البطاقات المتبقية حتى منتصف شهر فبراير/ شباط المقبل.
بدوره، يقول عضو المكتب التنفيذي لقطاع المحروقات في ريف دمشق عمران سلاخو إن نحو 361 ألف بطاقة عائلية لم تحصل على مخصصاتها من مادة مازوت التدفئة بعد، كاشفاً أن معدل التوزيع اليومي لمازوت التدفئة في المحافظة يراوح بين 5 و6 طلبات يومياً، أي بمعدل 132 ألف ليتر مازوت.
أرقام تطرح تساؤلات حول كمية المازوت والبنزين التي تدخل إلى السوق السوداء بالمدن التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد لتباع بأعلى من السعر الرسمي بآلاف الليرات (سعر ليتر المازوت الرسمي 9500 ليرة والبنزين 12400 ليرة)، وسعر ليتر المازوت للآليات والمركبات 11880 ليرة وللمزارع الزراعية (المداجن)، 8 آلاف ليرة.
يكشف مصدر خاص من دمشق، طلب عدم ذكر اسمه، أن المشتقات النفطية بالسوق السورية غير النظامية تأتي جلها من لبنان عبر مناطق سرغايا ومضايا بريف دمشق الغربي، ومن منطقة تلكلخ وسهل عكار، غربي مدينة حمص، يجلبها تجار معروفون ومقربون من نظام الأسد ويوزعونها على الباعة بالأسواق والشوارع.
ولكن، يستدرك المصدر، يأتي صبحي عباس، الذي يملك ويدير أكثر من 30 محطة محروقات بدمشق، بمقدمة "حيتان المحروقات"، وهو مقرّب من نظام الأسد ويدير معظم المحروقات المهربة من لبنان أو التي يبيعها لمستحقيها طمعاً بفارق السعر ليتدبروا بثمنها أولويات معيشتهم.
وللمفارقة ولفهم لعبة النفط، تم تعيين قاطرجي وعباس بالبرلمان ممثلين عن الشعب السوري، ويضيف المصدر أن "شركة القاطرجي" التي تستجر النفط من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، تهرّب للسوق كميات كبيرة، وأيضاً باتفاق وعلم النظام.
لأن قاطرجي، برأيه، من أدوات بشار الأسد التي تمده، كما المخدرات، بالمال، كاشفاً لـ"العربي الجديد"، عن خلاف بين قاطرجي وما يسمى قائد الدفاع الوطني بمدينة دير الزور فراس عراقية، بعدما حاول عراقية إدخال النفط من شرقي الفرات (مناطق قسد)، وتوّج الخلاف بإبعاد قائد الدفاع الوطني وإبقاء الحصرية للقاطرجي، وهذا الخلاف كاد يصل للاصطدام المسلح.
أرقام تضليلية حول الدعم
يتفق متخصصون على أن أسعار المحروقات في سورية هي أعلى من السعر العالمي "بعشرين في المائة على الأقل"، وأن ما يشاع عن دعم المحروقات والأرقام التي ترد في الموازنة "هي تضليلية".
وكشف موقع "آثر برس" من دمشق، قبل أيام، أن حكومة الأسد تستورد النفط خاماً من إيران وتكرره في المصافي السورية، في حين تسعره وفق أسعار المشتقات عالمياً، وذلك أعلى بنحو 20 في المائة من كلفة استيراده خاماً وتكريره محلياً، وليس وفقاً للتكاليف الحقيقية المدفوعة لاستيراد النفط وتكريره في المصافي المحلية.
ويضيف مصدر "العربي الجديد" أن حكومة الأسد تضيف 10 في المائة رسوماً جمركية أثناء عملية احتساب تكاليف المشـتقات النفطية، وفقاً لما تنص عليه أنظمة التجارة الخارجية عند استيراد المشتقات النفطية، وهذه تكلفة إضافية يتحملها المواطن.
وشكّل ارتفاع أسعار المازوت مؤخراً للشاحنات ونقل البضائع ضربة إضافية للسوق السورية، لأن ارتفاع سعر المازوت يتحمّل ضريبته المواطن بعد أن ترفع الشاحنات أجور النقل، لتذهب التوقعات بارتفاع الأسعار بنحو 25 في المائة خلال الأسبوع الأخير.
وطاول ارتفاع الأسعار مواد الرز والبرغل والعدس والطحين والسكر والزيت والأجبان والحبوب.