حكام السودان الجدد والعسل المر

27 اغسطس 2019
رئيس الوزراء السوداني الجديد، عبد الله حمدوك (Geety)
+ الخط -

 


قبل أيام خرج رئيس الوزراء السوداني الجديد، عبد الله حمدوك، بتصريح لافت قال فيه إن بلاده تحتاج ما بين 8 - 10 مليارات دولار مساعدات أجنبية خلال العامين المقبلين لتغطية كلفة الواردات، وللمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد بعد الاضطرابات السياسية المستمرة منذ شهور.

كما أن السودان تحتاج بصورة عاجلة إلى ملياري دولار يتم إضافتها لاحتياطي البلاد من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، للمساعدة في إيقاف تدهور سعر صرف الجنيه مقابل الدولار.

هذا عن المساعدات النقدية العاجلة التي يقول حمدوك إنه يحتاجها بشكل عاجل، فماذا عن كلفة احتواء الأزمة الاقتصادية والمالية العنيفة التي تمر بها السودان والناتجة عن سنوات طويلة من فساد نظام عمر البشير، وتبديد ثروات البلاد، وعدم توافر الاستقرار السياسي والأمني، وتنامي الصراعات القبلية؟

هناك طريقان أمام حمدوك لحل أزمة السودان الاقتصادية والتعامل مع المشاكل الحياتية والمعيشية للمواطن، الأول هو الاقتراض الخارجي وبالتالي رهن البلاد وقرارها السياسي، بل ومستقبلها، للخارج والدائنين، والثاني الاعتماد على الذات خاصة مع امتلاك السودان لفرص استثمارية في كل القطاعات.

طريق القروض الوعر

الحل الأول سهل وهو الاقتراض وتلجأ إليه الحكومات "المتكاسلة"، أو التي ليس لديها رؤية محددة لمعالجة أزمات الاقتصاد بالاعتماد على الموارد الذاتية المتاحة، ولا تعطي هذه الحكومات أولوية لزيادة الصادرات وقضية الإنتاج وتنمية الاقتصاد الوطني، ولا تدرك الامكانيات الحقيقة للدول التي تحكمها.

لكن الاقتراض حل مر، إذ أنه سيترتب عليه توريط البلاد في مستنقع الاقتراض الخارجي وعجز الموازنة العامة وتفاقم الدين العام، والأخطر ارتهان القرار السياسي والاقتصادي، بل والاجتماعي، للدولة بتعليمات وشروط وإملاءات الدائنين.

الاقتراض الخارجي يأتي عبر ثلاث وسائل رئيسية، الأولى هي المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الآسيوي للتنمية والبنك الأوروبي للتنمية، ثم المؤسسات الإقليمية ومنها بنوك: الإسلامي للتنمية والأفريقي للتنمية والأفريقي للتصدير والاستيراد وصندوق النقد العربي والصندوق الكويتي وغيرها.

والثانية عبر طرح سندات في الأسواق الدولية، سواء باليورو أو الدولار أو عملات أجنبية أخرى، وهنا يقترض السودان الأموال مباشرة وبسعر فائدة مرتفع من بنوك استثمار وصناديق تمويل ومستثمرين دوليين، وهذه مسألة ليست سهلة بالنسبة لصانع القرار السوداني، خاصة مع ضعف موارد النقد الأجنبي وندرة السيولة الدولارية، سواء لدى الحكومة أو البنوك، وإدراج اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.

أما الوسيلة الثالثة للاقتراض الخارجي فتأتي عبر المانحين، سواء الدوليين أو الإقليميين، وهنا نحن نتحدث عن دول الخليج وفي المقدمة السعودية والإمارات، إضافة إلى جهات مانحة أخرى منها الولايات المتحدة والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها.

أجندة صندوق النقد

هذا الحل السهل والمر في نفس الوقت يتطلب دخول السودان في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يعقبها إبرام اتفاق مع الصندوق يتم بموجبه التزام الحكومة بتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي تقشفي وصعب من أبرز ملامحه، تعويم الجنيه السوداني، وزيادة الضرائب والجمارك، وخفض الدعم الحكومي عن السلع الرئيسية، وإجراء زيادات مستمرة في أسعار الوقود، ورفع أسعار الخدمات الرئيسية مثل الكهرباء والمياه والرسوم الحكومية.

وهنا يتم تحميل المواطن تكلفة هذا البرنامج التقشفي، وهنا سيعود المواطن إلى نقطة ما قبل اندلاع الثورة في الأزمات المعيشية، بل وربما يمر بمرحلة أسوأ من تلك المرحلة التي أوصلته إلى الثورة على عمر البشير، والإطاحة به بعد 30 عاما من الحكم.

ولا ننسى أن نقص المواد الغذائية والوقود والعملة الصعبة أدى إلى تصاعد غضب السودانيين، واندلاع مظاهرات حاشدة أجبرت الرئيس السابق في نهاية المطاف على التنحي.

الاعتماد على الذات

أما الطريق الثاني الذي يمكن لحكام السودان الجدد اللجوء إليه في مواجهة الأزمة الاقتصادية، فهو الاعتماد على الذات خاصة وأن السودان يمتلك ثروات غذائية وحيوانية وتعدينية وبشرية هائلة، فلديه ملايين المغتربين الذين يمكن أن تمثل تحويلاتهم النقدية إلى الداخل رافعة ودعما للاقتصاد والمصدر الأول للنقد الأجنبي.

ولدى السودان فرصة كبيرة لإحداث قفزة في الصادرات، خاصة الزراعية والحيوانية والنفطية والتعدينية وغيرها، ولديه فرصة أيضاً لاستقطاب مليارات الدولارات من استثمارات عربية وأجنبية تبحث عن فرص استثمار، خاصة في القطاع الزراعي والنفطي والتعديني، ولديه فرصة لاستقطاب ملايين السياح الباحثين عن الحضارات القديمة والراحة والطبيعة الخلابة.

لكن نجاح الطريق الثاني يتطلب من حكام السودان الجدد إقناع المواطنين بجديتهم في الإصلاح الاقتصادي والمالي، وتوفير استقرار سياسي وأمني حقيقي غير مفتعل، واعمال دولة القانون، ومكافحة الفساد والبيروقراطية، والتوزيع العادل للثروات، ومنع نهب جبال الذهب، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل الاقتصادي، والعمل على إعادة الأموال المنهوبة التي تم تهريبها إلى الخارج في عهد البشير وما قبله، وإطلاق الحريات، خاصة الرأي والتعبير، واحترام حقوق الإنسان.