أوروبا تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في الانضمام لتحالف غربي واسع يفرض عقوبات تستهدف قطاع الطاقة الروسي سواء كان نفطا أم غازا، والانضمام للقرار الأميركي بشأن الحظر الذي تم اتخاذه مساء أمس الثلاثاء.
فبضاعتها من العقوبات الجديدة والقائمة ستُرد إليها وبقوة في شكل خسائر مالية فادحة، وتكاليف إضافية، وقفزات في أسعار الأغذية والبنزين والسولار والغاز والمواد الأولية والسلع الخام واشباه الموصلات وغيرها.
والقارة العجوز تدرك ذلك جيدا، ولذا فإن معظم دولها بما فيها القوية اقتصاديا مثل ألمانيا تعارض القرار الأميركي بفرض عقوبات نفطية على روسيا.
صحيح أن العقوبات الغربية المتواصلة منذ غزو أوكرانيا ضربت بقوة مفاصل الاقتصاد الروسي، وأثرت سلباً على قطاعه المالي والمصرفي والتجاري، وشلت المعاملات الخارجية للدولة، وأدت إلى حدوث قفزات في كلفة الواردات، وتهاوٍ في قيمة العملة المحلية الروبل مقابل الدولار، وحدوث اضطرابات شديدة في أسواق المال والبورصات، وارتباك في الأسواق الداخلية وحركة التجارة، وقفزات في الأسعار بما فيها السلع الغذائية، وعرقلت جزءا من الصادرات الروسية، وقللت الإيرادات العامة، لكن في المقابل فإن الغرب، اقتصاده وأسواقه شركاته ومواطنيه، تضرر أيضا من تلك العقوبات الجماعية على موسكو والتي تزيد رقعتها يوماً بعد يوم.
أوروبا تدرك جيداً أنّ فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي قد يدفع روسيا إلى اتخاذ خطوات عقابية دفاعية منها على سبيل المثال حظر تصدير الغاز والنفط والمواد الأولية إلى أوروبا، وهو ما أكده نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك الذي أعلن أن موسكو قد تقطع إمدادات الغاز عبر خط الأنابيب "نورد ستريم 1" إلى ألمانيا.
وهذا يعني ببساطة كارثة للقارة العجوز، وحدوث قفزات قياسية في أسعار الغاز والوقود والسلع بها، وتعرض المواطن الأوروبي لضغوط تضخمية وحياتية شديدة ممثلة في حدوث قفزة في كلفة الإنتاج والمعيشة والسلع الغذائية وفواتير الكهرباء والتدفئة وأسعار البنزين والسولار وغيرها.
أوروبا تتحدث يوميا عن أمكانية الاستغناء عن الغاز الروسي، وهذا كلام للاستهلاك الإعلامي ليس إلّا، لأنها تدرك صعوبة إن لم يكن استحالة الاستغناء قريباً عن ذلك الغاز المتدفق حتى الآن والذي يمثل نحو 40% من احتياجاتها، خاصة في ظل شتاء قارس وقفزات في أسعار الغاز عالميا قبل الحرب، وعدم وجود بدائل سريعة لاستيراد الغاز سواء من قطر أو الجزائر أو الولايات المتحدة أو مناشئ أخرى. كما لا تستطع الاستغناء عن النفط الروسي.
أوروبا تدرك جيداً أنّ فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي قد يدفع روسيا إلى اتخاذ خطوات عقابية دفاعية منها حظر تصدير الغاز والنفط والمواد الأولية إلى القارة
كما تدرك القارة العجوز أن إقدام روسيا على وقف تدفق إمدادات الغاز سيصيب المصانع الأوروبية بالشلل التام، وقد رأينا قبل أيام كيف تعرض قطاع صناعة السيارات الألماني لحالة شلل، وتوقف بعض المصانع والشركات الألمانية الكبرى عن تصدير السيارات، وحدوث تراجع في إنتاج مصانع أوروبية كبرى.
وذلك لأن الحرب الروسية على أوكرانيا أدت إلى حدوث نقص شديد في أشباه الموصلات وقطع الغيار وأحزمة الكابلات من روسيا وأوكرانيا، كما أدت إلى حدوث نقص في المواد الخام المخصصة للتصنيع، مثل غاز النيون والبلاديوم والنيكل، حيث تعتبر أوكرانيا أحد أكبر موردي النيون، وهذا الشلل قد يمتد لاحقا إلى معظم مراكز الإنتاج في أوروبا.
أوروبا ستتضرر بشدة من الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن القرار الأميركي الخاص بحظر النفط والغاز الروسي، كما ستتضرر من العقوبات التي تفرضها مع الولايات المتحدة والتحالف الغربي على روسيا.
وقد تمتد التأثيرات إلى قطاع الحبوب، حيث إن روسيا وأوكرانيا تعدان من أكبر مصدري الحبوب والقمح على مستوى العالم، وفي كل الأحوال فإن القارة العجوز على موعد مع أزمات جديدة تنهك اقتصادها كما أنهكته جائحة كورونا في العامين الأخيرين.
وأوروبا والولايات المتحدة تدركان معا أن الاقتصاد الروسي ليس من ورق، فلديه مقومات وأصول ضخمة، ويملك أوراق ضغط وأدوات قوية، وروسيا لا تزال سوقا واعدا للشركات الغربية، ولذا فإن العقوبات الغربية لن تحوله إلى اقتصاد هش كما يحلو لوسائل الإعلام الغربية أن تردد.
صحيح أنها ستؤثر عليه بشدة خاصة على المستوى الخارجي مع التحفظ على نصف الاحتياطي الروسي من النقد الأجنبي، وحرمان بنوك روسية كبرى من نظام سويفت، واعتماد السوق الروسي على مواد خام وسلع وسيطة قادمة من أوروبا. وصحيح أنها ستضعفه كما حدث في سنوات ماضية.
لكن تكرار تجربة التسعينيات، وعمل الغرب على انهيار روسيا من بوابة الاقتصاد كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، أظن أنه مسألة مستبعدة في القريب العاجل والمستقبل المنظور، خاصة مع قيام حكومة فلاديمير بوتين بمحاولة تحصين الاقتصاد من الأزمات الخارجية في السنوات الأخيرة.