في اجتماع طارئ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يوم الأربعاء الثالث من يناير الحالي، وبدعوة من الولايات المتحدة وأعضاء آخرين في المجلس، كشفت المنظمة البحرية الدولية عن تغيير 18 شركةً للشحن البحري مسار سفنها وتجارةٍ تبلغ قيمتُها 200 مليار دولار بعيدًا عن البحر الأحمر وقناة السويس، خشية هجمات جماعة الحوثي اليمنية.
وقال الأمين العام للمنظمة، أرسينيو دومينغيز، للمجلس: "هذا يضيف 10 أيام إلى الرحلة ويسبب زيادة في أسعار الشحن".
وفي مطلع العام الجديد، جددت شركتا ميرسك الدنماركية للشحن، وهاباغ لويد الألمانية قرارا سابقا بإعادة وقف جميع رحلات السفن التابعة لهما عبر البحر الأحمر مرورا بقناة السويس بعد تجدد هجوم المسلحين الحوثيين على إحدى السفن التابعة لميرسك، وأعلنتا عن تغيير مسار السفن بعيدا عن قناة السويس والاتجاه إلى رأس الرجاء الصالح لأسباب أمنية وحتى التاسع من يناير/كانون الثاني على أقل تقدير.
وكانت شركة ميرسك قد استأنفت استخدام ممر البحر الأحمر البحري بعد انطلاق عملية حارس الإزدهار، لكنها تراجعت عن قرارها مع زيادة عمليات مهاجمة الحوثي للسفن المارة بباب المندب.
وقال متحدث باسم شركة هاباغ لويد الألمانية، إن الشركة تكبدت تكاليف بعشرات الملايين من اليوروهات، خلال الفترة بين 18 و31 ديسمبر/ كانون الأول، نتيجة تحويل مسار 25 سفينة بعد هجمات لجماعة الحوثي على سفن في البحر الأحمر حول أفريقيا. وهو مبلغ كبير يكشف عن أهمية قناة السويس للتجارة الدولية.
وأعلنت شركة كوسكو الصينية العملاقة للشحن، وهي رابع أكبر خط ملاحي للحاويات في العالم، وتسهم بنحو 11% من التجارة العالمية، عن وقف الإبحار باتجاه الموانئ الإسرائيلية على البحر الأحمر، وعللت القرار بتصاعد التوترات في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وفق وسائل إعلام إسرائيلية.
وقبل أيام، أعلنت شركة الشحن الأميركية، فليكس بورت، أن نحو 180 سفينة شحن غيرت وجهاتها حول أفريقيا، بعيدا عن مضيق باب المندب وقناة السويس بانتظار تعليمات من الشركات المشغلة لها.
تحويل مسار سفن الشحن حول أفريقيا بعيدا عن باب المندب، يكشف عن فشل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في التصدي لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر وضمان حرية الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر، والذي تأسس في 18 ديسمبر/كانون الأول تحت مسمى "المبادرة الأمنية متعددة الجنسيات" لحماية السفن في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، وتغير اسمه بعد ذلك إلى "حارس الازدهار"، ويضم عشرة بلدان من بينها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وهولندا والنرويج وإسبانيا والبحرين وجزر السيشل.
وقد بدأت جماعة الحوثي، في نوفمبر/تشرين الثاني مهاجمة السفن التي تعبر البحر الأحمر، ردا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وبعد توقيف ومهاجمة عدد من سفن الشحن في باب المندب، أعلنت أكبر أربع شركات للشحن البحري العملاقة في العالم، وتمتلك أكثر من 53% من تجارة الحاويات العالمية، عن وقف عملياتها تماما في البحر الأحمر لإشعار آخر، وتوجيه سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، البديل التقليدي لممر قناة السويس، هي شركة البحر الأبيض المتوسط للملاحة، هاباج لويد، ميرسك، وسي. إم. إيه.
خسائر وتضخم في أوروبا
ما يكشف عن حجم الأزمة في التجارة الدولية والخسائر غير المتوقعة التي فرضها الحوثيون بمهاجمة سفن الشحن، بجرأة منقطعة النظير على المجتمع الدولي، تصريح الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الاقتصادية العالمية مجموعة ليندسي، لاري ليندسي، بارتفاع أسعار الشحن البحري من آسيا إلى شمال أوروبا في الأسبوع من يناير بأكثر من الضعف، لتتجاوز 4 آلاف دولار لكل حاوية بحجم 40 قدمًا، صعوداً من متوسط 1900 دولار سابقاً.
وأعلنت شركات النقل عن أسعار تزيد عن 6 آلاف دولار لكل حاوية 40 قدمًا لشحنات البحر الأبيض المتوسط المتجهة من آسيا لأوروبا بدءًا من منتصف الشهر، مع رسوم إضافية تتراوح بين 500 دولار و2700 دولار لكل حاوية. كما أن مدة الشحن تواجه تأخيراً لمدة 10 إلى 14 يوماً في عمليات التسليم بسبب سلوكها طريقاً بحرياً أطول حول أفريقيا بعيدا عن طريق باب المندب- قناة السويس.
وارتفعت أسعار الشحن من آسيا إلى الساحل الشرقي لأميركا الشمالية بنسبة 55% لتصل إلى 3900 دولار لكل حاوية 40 قدماً. كما ارتفعت أسعار الساحل الغربي بنسبة 63% إلى أكثر من 2700 دولار.
ومن المتوقع أن تبدأ المزيد من شركات الشحن في تجنب الساحل الشرقي وتفضيل موانئ الساحل الغربي. وفي العموم، قفزت أجور الشحن البحري بين آسيا وأوروبا بنسبة وصلت إلى 173% منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
يمر عبر قناة السويس ما يقرب من ثلث سفن الحاويات العالمية، ذلك أن الخط الملاحي، باب المندب- قناة السويس ما زال هو أهم وأقصر الطرق البحرية في العالم لشحن البضائع المتجهة من آسيا ومنطقة الخليج العربي إلى أوروبا وأميركا الشمالية وبالعكس، وخاصة النفط الخام والوقود والغاز، في رحلة تستغرق سبعة أيام.
وفي حال استمرار استهداف جماعة الحوثي، ستحتاج سفن الحاويات المتجهة من الشرق الأقصى إلى أوروبا إلى أن تسلك طريقا أطول وأكثر كلفة بنسبة 40% حول أفريقيا، طريق رأس الرجاء الصالح، ما يزيد من وقت شحن البضائع بمقدار أسبوعين إلى أربعة أسابيع.
ويؤدي إلى ارتفاع أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب في البحر الأحمر إلى خسائر كتكاليف إضافية لكل سفينة بما يصل إلى مليون دولار، بالإضافة إلى تكلفة إضافية في استهلاك الوقود تصل إلى مليون دولار لكل رحلة بين آسيا وشمال أوروبا، ذهابا وإيابا.
أيضا، تحويل الملاحة بعيدا عن قناة السويس يشعل أسعار السلع والخدمات في أوروبا والولايات المتحدة، ويتسبب في موجات تضخم جديدة تشبه مثيلتها في سنة 2020 الناتجة من اضطراب سلاسل الشحن البحري بسبب وباء كورونا، ويلقي بأعباء على موازنات الأسر والحكومات، وقد تزيد البنوك المركزية أسعار الفائدة مرة أخرى، للتغلب على موجات التضخم المتوقعة.
خسائر قناة السويس
دون أن نخوض في تداعياته على الاقتصاد الأوروبي والأميركي، فإن تهديد جماعة الحوثي مسار السفن في باب المندب مرورا بقناة السويس، له تداعيات كارثية على مصر، التي تعتمد على رسوم العبور عبر قناة السويس لتعزيز عائداتها الشحيحة من العملة الأجنبية. تقول مجلة التايم، إن مصر هي الخاسر الأكبر بسبب إغلاق البحر الأحمر، وقد يواجه الجنرال عبد الفتاح السيسي ضغوطاً مالية كبيرة بسبب تباطؤ حركة المرور عبر القناة.
واعترف رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع، قبل أيام بتراجع إيرادات القناة 40% منذ بداية العام 2024 مقارنة بعام 2023، بعد أن أدت هجمات الحوثيين على سفن إلى تحويل مسار إبحارها بعيدا عن هذا الممر. كما أعترف بتراجع حركة عبور السفن 30% في الفترة من 1 - 11 يناير على أساس سنوي.
وتعد قناة السويس موردا تاريخيا لخزانة الدولة المصرية من النقد الأجنبي والتي تواجه نقصا شديدا فيها وتدهورا في الاقتصاد. وخلال السنوات العشر الأخيرة، حققت القناة إيرادات بلغت 50.9 مليار دولار، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
يذهب 60% من دخل القناة إلى الموازنة العامة للدولة، وتذهب 25% منها إلى الميزانية الاستثمارية، ويتبقى 15%، لمخصصات التشغيل والرواتب وقطع الغيار، بحسب تصريح أسامة ربيع.
بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022، حققت قناة السويس أكبر إيرادات في تاريخها، حيث تحولت الدول الأوروبية وكندا إلى استيراد النفط والغاز من منطقة الخليج العربي بدلا من روسيا مرورا بالقناة. وكذلك، تحولت روسيا إلى تصدير النفط والغاز من أوروبا وكندا إلى دول جنوب شرق آسيا مرورا بالقناة أيضا.
نتيجة لذلك، زادت أعداد الناقلات العابرة للقناة بنسبة 25%، وسفن الحاويات بنسبة 9%، وناقلات الغاز الطبيعي المسال بنسبة 12%. وحققت القناة أعلى إيرادات شهرية على الإطلاق في شهر أبريل سنة 2022، بواقع 629 مليون دولار. وفي سنة المالية 2021/2022، حققت القناة طفرة في إيرادها السنوي بلغت 7 مليارات دولار، زادت في السنة اللاحقة إلى 9.4 مليارات دولار.
وحقق الغزو الروسي لأوكرانيا مكاسب سياسية للنظام المصري، الذي روج لزيادة واردات القناة بعشرات المليارات من الدولارات بعد حفر تفريعة قناة السويس الجديدة وافتتاحها في منتصف سنة 2015.
وكانت المفاجأة، أن واردات القناة انخفضت من 5.4 مليارات دولار في سنة 2014/2015، إلى 4.9 مليارات دولار في سنة 2015/2016. واستمرت الواردات السنوية دون زيادة معنوية حتى اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتحولت واردات القناة من التراجع إلى النمو.
تهديد جماعة الحوثي ممر السفن عبر باب المندب إلى قناة السويس يقوض حلم الحكومة المصري في تخطي واردات القناة حاجز 10 مليارات دولار. من ناحية أخرى، سوف يفوت على القناة المصرية فرصة الاستفادة من تأثير الجفاف في إقليم قناة بنما على تراجع عدد السفن المارة بالقناة وتحولها الطبيعي إلى قناة السويس.
فقد أدى الجفاف في قناة بنما إلى انخفاض معدل عبور السفن اليومي من 37 سفينة، إلى معدل 32 سفينة. وبينما تستحوذ قناة السويس على 12.5% من حركة التجارة العالمية المنقولة بحرًا، تستحوذ قناة بنما على 5%. سيؤدي الجفاف إلى تراجع نصيب قناة بنما إلى 3% فقط.
وكان من المتوقع أن تستحوذ قناة السويس على 1% إضافية من حركة التجارة العالمية خصما من نصيب قناة بنما، ما يزيد من إيرادات القناة بمعدل 1.2 مليار دولار، ولكن أتت رياح الحوثي بما لم تشته سفن قناة السويس، وضيعت فرصة جني ثمار عرقلة حركة مرور السفن في قناة بنما.
خسائر مصر بسبب تحول سفن الشحن بعيدا عن ممر قناة السويس تدعو النظام المصري، قبل غيره من الحكومات الغربية، إلى العمل الجاد والحقيقي لوقف العدوان على غزة.
ليس حقنا لدماء الفلسطينيين، الذين لم يسع بجدية حتى الآن، ورغم مرور أكثر من 95 يوما من العدوان، لنجدتهم بالتدخل لوقف الحرب أو إدخال المساعدات الحقيقية للقطاع واستقبال جرحى العدوان لعلاجهم في مصر أو خارجها، ولكن حرصا على موارد قناة السويس في المقام الأول.