بعدما بدت العودة إلى الاتِّفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015 شبه مستحيلة قبل بضعة أسابيع فقط، أعلن الاتِّحاد الأوروبي يوم 8 أغسطس/ آب عن تقديم نصّ نهائي لإحياء الصفقة النووية مع إيران بعد أربعة أيام من المحادثات غير المباشرة بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين في فيينا.
وبعد عام ونصف من سعي كل طرف إلى تحميل المسؤولية للطرف الآخر ودفعه لتقديم تنازلات كبيرة في هذا الملف، تمَّ فتح نافذة فرصة للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
واعتبرت وزارة الخارجية الأميركية هذه الخطوة بمثابة اختبار حقيقي لمدى تطابق أقوال وأفعال الإيرانيين الذين طالما عبَّروا عن استعدادهم للعودة إلى الامتثال المتبادل لخطة العمل الشاملة المشتركة، متناسية حقيقة أنّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هو الذي تخلَّى عن الصفقة في عام 2018 وأعاد فرض عقوبات قاسية على إيران بهدف خنق صادراتها النفطية التي تعدّ المصدر الرئيسي لدخلها، ومتغافلة عن التناقض الموجود بين أفعال الإدارة الأميركية وأقوالها والذي يعكس عدم منطقية واشنطن.
على الرغم من التوصُّل إلى نصٍّ نهائي بشأن الاتِّفاق النووي، لم يتَّضح بعد ما إذا كانت إيران ستقبل بشروط الصفقة المقترحة والمفصَّلة بمقياس رغبات ومطامح الغرب، فقد أشار ريتشارد غولدبرغ، كبير مستشاري مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن، إلى أنّ مسؤولاً إيرانياً قد صرَّح علناً بأنّ فرص إبرام هذه الصفقة هي 50/50.
ويبدو واضحاً أنّ إيران تختبر صبر الولايات المتحدة وأوروبا، محاولة بذلك انتزاع المزيد من التنازلات مع مرور كل يوم لا ترفض فيه الصفقة النووية بشكل قاطع، لكنها لا تقبلها أيضاً.
في الواقع، تريد إيران إزالة الحرس الثوري الإيراني، الذي يؤرِّق إسرائيل، من قائمة العقوبات الأميركية، كما تطالب بإقفال ملف التحقيقات التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإعلان سلمية البرنامج النووي الإيراني، وترغب بالتمتُّع بحرية إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار، وتتطلَّع إلى ممارسة أنشطتها الاقتصادية والتجارية بكل حرية، وكذا الحصول على عائداتها المالية عن تعاملها مع العالم الخارجي دون أي عوائق.
ممّا لا شكّ فيه أنّ القبول الإيراني للنصّ الأوروبي النهائي المقترح لإعادة إحياء الاتِّفاق النووي الإيراني يستلزم الموافقة على كل الفقرات واتِّخاذ العديد من القرارات الحاسمة والصائبة، والحصول قبل كل ذلك على ضمانات أميركية مكتوبة بعدم الانسحاب المستقبلي من الاتِّفاقية.
لا يقتصر نجاح العودة للاتِّفاق على هذين الطرفين فحسب، ولكنه يتوقَّف أيضاً على موقف إسرائيل المتعصِّب لفكرة أنّ إيران قد طوَّرت أجهزة طرد مركزي وخصبت كميات كبيرة من اليورانيوم إلى ما هو أبعد من الاتِّفاق النووي المبرم عام 2015 وتقترب من أن تكون قادرة في يوم من الأيام على صنع قنبلة نووية.
من المستبعد أن يقوِّض الغرب الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتَّسم بالحزم وعدم التساهل في مطالبة إيران بتقديم إجابات صريحة بشأن عملها العسكري السابق تجاه صنع القنبلة النووية، لذلك فهو يعوِّل على الأزمة الاقتصادية الخانقة في إيران والتي ما برحت تشكِّل تهديداً لا يستهان به لمصداقية حكومة وإدارة الرئيس إبراهيم رئيسي ومستقبله السياسي في حقبة ما بعد المرشد الأعلى علي خامنئي، لا سيَّما في ظلّ فشل اقتصاد المقاومة الذي روَّج له الرئيس رئيسي في حملته الانتخابية وتزايد الاستياء من فشل الحكومة في معالجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتأخُّر صرف الأجور المستحقّة والتعديلات الجذرية في نظام الدعم الحكومي ورفع أسعار العديد من المواد الغذائية الأساسية وتصاعد الاحتجاجات العُمالية.
فقد أعلن مركز الإحصاء الإيراني في تقرير أصدره في 26 يونيو/ حزيران الماضي، أنّ معدل التضخُّم وصل إلى 52.5 بالمائة خلال الفترة الممتدّة ما بين 22 مايو/ أيار و21 يونيو/ حزيران الماضي، مُسجِّلاً زيادة تصل إلى 13.2 بالمائة مقارنة بالفترة السابقة، وهذا ما يخالف تماماً توقُّعات حكومة رئيسي بانخفاض معدل التضخُّم بـ 8 في المائة.
كما ارتفعت أسعار الدواء بنسبة 30 بالمائة على الرغم من تأكيد الرئيس الإيراني أنَّ الارتفاعات لن تمسّ أسعار الدواء والخبز والبنزين، وكان توفير مليون وظيفة جديدة كل عام من بين الوعود الرئيسية الأخرى التي أطلقها رئيسي خلال حملته، ولكن تُظهر إحصائيات صندوق النقد الدولي أنّه من المتوقَّع أن يرتفع معدل البطالة من 9.81 بالمائة في 2021 إلى 10.17 بالمائة بنهاية عام 2022، مؤكِّدة تقلُّص التوظيف بالفعل خلال فترة رئاسته.
في ظلّ غياب التزامات سياسية وضمانات اقتصادية أميركية تزيل كافة العراقيل التي تقف حائلاً أمام المعاملات الاقتصادية والتجارية الإيرانية مع العالم، لن تتسرَّع إيران في اتِّخاذ قرارٍ نهائي وحاسم في المباحثات الهادفة لإحياء الاتِّفاق بشأن برنامجها النووي بالرغم من حاجتها الماسة للحصول على موارد مالية كبيرة كفيلة بهندسة انعكاس إيجابي سريع لعقدٍ من البؤس الاقتصادي من خلال الوصول إلى 100 مليار دولار من أصولها المجمَّدة في الخارج وتصدير حوالي مليوني برميل من النفط يومياً والحصول بالتالي على عائدات سنوية تفوق الـ 70 مليار دولار، بسعر 100 دولار للبرميل.
موافقة إيران على النصّ النهائي الذي أعلن الاتِّحاد الأوروبي طرحه في ختام المفاوضات الرامية لإعادة إحياء الاتِّفاق تعني بالضرورة إقرار هدنة مع إسرائيل المقتنعة تماماً باستمرار الابتزاز الإيراني لها وللغرب باستخدام بطاقة اليورانيوم المخصَّب حتى لو تمَّ الاتِّفاق على صفقة جديدة أو العودة إلى الصفقة القديمة.
ويبدو أنّ العدوان العسكري الغاشم الذي شنَّته قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 5 أغسطس/ آب والذي استهدفت فيه حركة الجهاد الإسلامي كان موجَّهاً لاستفزاز الوكيل الإيراني واستباق معرفة مدى قدرته على تهديد إسرائيل.
خلاصة القول، تبقى العودة المتبادلة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة مرهونة بالتوصُّل إلى حلّ وسط يرضي كلا الطرفين إلى حدٍّ ما ومعلَّقة أيضاً بالموقف الإسرائيلي الذي لا يرى سوى التهديد الإيراني من عدّة زوايا وجبهات خصوصاً في ظلّ الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة.