يريد اقتصاديون كثيرون قراءة المستقبل، إلى حد أن الحسم في الخلاف بين أصحاب النظرية الكلاسيكية الجديدة (جامعة شيكاغو وميلتون فريدمان) ومدرسة هارفارد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) أو الكينزية الجديدة، قد ترك لأي من هذين النموذجين فرصة التفوق على الآخر، اعتماداً على دقة تقديره للناتج المحلي الإجمالي وقربه من الرقم الفعلي.
ولا يزال الصراع محتدماً بين المدرستين، ولكن المدرسة الكينزية المعتمدة على المدى القصير وجدت الإقبال عليها يتزايد في الآونة الأخيرة، وذلك من أجل تقدير التذبذبات والتقلبات في أسعار صرف العملات، وأسعار الذهب، وأسعار النفط.
أما أسعار الفوائد فهي ليست متغيرة بقدر ما هي محدّدة من جهات خارج آلية السوق، وخصوصا البنوك المركزية، أو وزارات المالية والحكومات في أحيان قليلة.
وفي المقابل، أدخلت مدرسة شيكاغو النيوكلاسيكية ما سمّوها "الأسعار والمتغيرات على المدى الطويل" ضمن نماذج التنبؤ في المديين، القصير والقصير جداً. ولذلك، وعلى الرغم من اعتبار المدرسة الكينزية أن المؤثر سعر الفائدة هو المستقل، والمؤثر في باقي المتغيرات.
أما مدرسة الكلاسيك الجديدة فتعتبر أن عرض النقد هو المستقل والمؤثر. وحسب نظرية شيكاغو، فإن زيادة السلطة النقدية عرض النقد سوف يؤدي، في المدى القصير، إلى هبوط أسعار الفائدة. ولكن هذا لن يدوم أكثر من شهرين أو ثلاثة، وهذا يسمى أثر سعر الفائدة.
وبسبب انخفاض أسعار الفائدة، يزيد الإقبال على الاقتراض، لأغراض الإنفاق الاستهلاكي أو الاستثماري، أو كليهما. وهذا يؤدي إلى أن يزيد المضاعف (multiplier) والمسرّع (accelerator) الدخول، ويفتح الباب بذلك على ارتفاع أسعار الفوائد.
وهكذا لا تكون أسعار الفوائد عنصراً مستقلاً، بل تابعاً. وسمي هذا الأثر بزيادة عرض النقد بأثر الدخل في المدى المتوسط. وفي المدى الطويل، يُدخل العنصر البشري في حساباته تجاربه الخاصة، وفهمه للتاريخ، وتفسيره السلاسل الزمنية، وتقديره تأثير السياسات واحتمالات وقوع النزاع والحرب في الحسبان.
ولذلك يصبح التحليل المنطقي أصعب منالاً، حيث إن السلوك والتجارب المختلفة هي التي تحدّد الاتجاهات التي يصعب قراءتها، وسمي هذا الأثر أثر جيبسون.
ومنذ زمن ونحن نصف الأسواق، وخصوصا أسواق البورصات والعملات، بأنها إما من نوع "الثور" أو (Bullish)، أي أنها سوق صاعدة، يُقبل فيها المستثمرون على الشراء، توقعاً منهم أن الأسواق سوف تصعد.
أو يصفون السوق بأنها من نوع "الدب" Bearish"، أو السوق الهابط، حيث يقبل الناس على البيع، لتوقعاتهم أن السعر سوف يهبط، فيسعون إلى البيع قبل أن يقع ذلك الهبوط.
وتنطبق هاتان الصفتان على السوق بمجمله، أو على عملة محدّدة، أو على كل الأسهم في سوق البورصة، أو أسهم الشركات الكبرى، أو على سهم بعينه.
ويأمل صناع السوق في أن تصرّفهم الثوري (التصعيد) سوف يغري مستثمرين كثيرين باللحاق بهم، ما يحوّل التوقعات إلى نبوءاتٍ محققة لذاتها.
وكذلك يأمل بعضهم في دفع السوق، أو بعض الوحدات المتداولة فيه، إلى الهبوط، أو السلوك الدبّي، وأن غالبية من يحملون تلك الوحدة سيبيعونها، حماية من اضطرارهم للبيع بأسعار أدنى.
ويستخدم الخبراء وسائل قياس مختلفة، تتفاوت بحجم المعلومات التي فيها، فبعضهم يستخدم لوحات الأعمدة أو القضبان (Bars) ليعطيك سعر الافتتاح، وسعر الإغلاق، وأعلى سعر نفذ، وأدنى سعر نُفذ.
ويتنبأ المستثمرون، بناء على هذه المعلومات، بما يمكن أن يحصل في السوق عامة، أو لأسهم معينة، في اليوم التالي أو الذي يليه.
ويستخدم آخرون نظام بائعي الأرز في اليابان، وهو استخدام الشمعدان (candlestick)، والذي بموجبه يقدم المستشارون معلومات أكثر عددا من المتغيرات الأربعة المذكورة في نظام الأعمدة أو القضبان، فهم يقدّمون معلومات حسب الطلب، مثل هل سيكون السوق صاعداً أو هابطاً، هل هنالك زبائن جدد منتظرون دخول السوق، وغيرها مما يمكّن المستثمر من الحكم بشكل أدق.
ونرى رواجاً كبيراً للاستشارات المجانية على شاشات التلفزة المختصة بالأسواق وتطوراتها، أو في الصحف أو المواقع الإلكترونية المختصة بهذه المعلومات، فكلها تسعى إلى رسم لوحات يستفيد منها المراقبون والمستثمرون وسماسرة السوق في تحديد سلوكياتهم الدببية أو الثورية أو المراقبة في اليوم التالي، عندما تقرع الأجراس، وتبدأ المساومات والبيع والشراء.
ويلاحظ، هذه الأيام، أن ضبابية الأسواق، وكثرة التقلبات في العوامل السياسية، هي العنصر الأساسي المهيمن على توجهات الأسواق وسلوك المتعاملين فيها. ولهذا صارت القراءة صعبة.
انظر إلى النظريات الكثيرة حول سعر الإسترليني، فقد تراوح بين 1.2300 و 1.1015 مقابل الدولار.
ويأتي معظم الأثر من توقعات نجاح رئيس الوزراء البريطاني الحالي، بوريس جونسون، أو فشله، في الوصول إلى اتفاق مع مفوضية السوق الأوروبية، أو خروجه منها في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل من دون اتفاق.
وكل هذا التذبذب في صرف سعر الإسترليني مقابل الدولار قد جرى خلال ثلاثة أيام من هذا الأسبوع، وعند نشر هذه المقالة ربما تكون الأمور قد تغيرت.
والذي يحير أكثر أن سعر الذهب الذي توقّع مراقبون كثيرون وصوله إلى 1500 دولار مع نهاية العام الحالي، قد فاجأ هؤلاء، منتصف الأسبوع الحالي، حين وصل إلى حوالي 1540 دولاراً للأونصة الواحدة. ولعل الذهب يلامس الـ 1700 دولار قبل نهاية هذا العام، وقد تتحقق نبوءة بعض المتفائلين بارتفاع سعره إلى ألفي دولار.
وما يحول دون ارتفاع سعر الذهب إلى مستويات أعلى هو ارتفاع سعر الدولار أمام عملات العالم الرئيسية، وإذا عاد الرئيس الأميركي، ترامب، يضغط على مجلس الاحتياطي الفدرالي " البنك المركزي الأميركي"، من أجل تخفيض أسعار الفوائد، فإن الدولار مقبل على هبوط، ولو إلى حين.
ووسط هذه الدوامة، يتخبّط سعر النفط بين احتمالات الحروب، وأخبار عن توسع بعض الدول في استخدام السيارات الكهربائية، وعن حوادث البحر وحركة السفن الناقلة للنفط وسلامتها، ومشروعات الأنابيب، وصدقية المعلومات عن النفط الأميركي، ومدى تماسك "أوبك" واتفاقاتها مع روسيا. لا شك أنه عالم مجنون، ولكنه غير مرشّح للتعقل قريباً.