لا يمكن عاقلاً أن ينكر التطورات الحادثة في "الشارع المصري" على مدار السنوات الماضية، خاصة لو طال غيابه "جسداً" عن أم الدنيا، أو انقطعت عنه أخبارها طوعاً أو كراهية لفترة طويلة. وبعيداً عمّا تحاول وسائل الإعلام المملوكة أو التابعة للحكومة المصرية ترويجه عن إنجازات مبالغ فيها، وبعضها غير حقيقي، يمكن زائر البلاد أن يلحظ العديد من التطورات الإيجابية، مع إدراك عدم إحداثها التأثير المطلوب في مشروع التنمية الاقتصادية الذي طال انتظاره، ولم تظهر له حتى الآن أية بوادر.
أول ما يخطف الأبصار لزائر البلاد، وخاصة في العاصمة، لا بد أن يكون الطرقات التي اتسعت ومُهدت وامتدت من القاهرة إلى العديد من المدن الأخرى، والكباري التي سهلت التنقل بين أنحاء المدينة التي يتجاوز عدد الموجودين فيها خلال ساعات العمل عشرين مليون مواطن.
ورغم غياب العديد من احتياطات الأمان في أغلبها، نأمل جميعاً أن تُستغل تلك الطرق في تسهيل نقل كل ما يطور الحياة ويسهلها لدى المقيمين في الأقاليم الأخرى، حيث إن إنشاء الطرق وبناء الكباري لا يكون عادة له قيمة في حد ذاته، بل تكمن قيمته في ما يساهم به من تحقيق النمو الاقتصادي الذي يمتد إلى المدن والمحافظات المنسية في أنحاء البلاد كافة.
أما ثاني التطورات، فلا بد أن يكون ما يلحظه الزائر من انتشار "عربات" الشباب التي تبيع منتجات غذائية وأطعمة ومشروبات، على جانبي الطريق، بتكلفة منخفضة وفي الوقت نفسه توفر إيراداً لا بأس به لأصحاب تلك السيارات. ورغم بساطة الفكرة ووجود منافسة "غير عادلة" من سيارات تابعة للقوات المسلحة المصرية، لا نملك إلا الإعجاب بشباب تخلى عن فكرة انتظار الوظيفة، وشرع في تحمل المخاطرة، من أجل التغلب على صعوبات الحياة.
ومع التسليم بضعف تأثير الخطوة السابقة بالاقتصاد المصري، شاهدنا امتداداً لها في قطاع تكنولوجيا المعلومات، حيث نجح العديد من الشباب المصري من المتخصصين في هذا القطاع في التواصل مع شركات عالمية، ومنها غوغل وأمازون وفيسبوك، وإقناعهم بقدراتهم، ليُعيَّنوا - سواء بعقود دائمة أو مؤقتة أو كممارس حر Freelancer - ويمارسوا عملهم من مصر، فيحصلوا على مبالغ ضخمة (بالمقاييس المصرية)، ويكتسبوا الخبرات، ويساهموا في إدخال العملة الصعبة إلى بلدهم، وإن كان بمبالغ قليلة حتى الآن.
هذه الأمور تمثل خطوات جادة ورائعة، وينبغي للحكومة المصرية دعمها وتسهيلها للشباب من أصحاب المواهب والمؤهلات، على النحو الذي فعلته كل من الصين والهند من قبل، فتحققت لشبابهما السيطرة على صناعة تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. وكما هو واضح، يكمن الفارق الأساسي هنا في توافر الدعم الحكومي للشباب في البلدين وغيابه في الحالة المصرية.
ومع غياب الإنجازات الكبرى عن الاقتصاد المصري، وتراجع دور القطاع الخاص، وإهمال أهداف زيادة الإنتاج والتوسع في التصدير، يلاحظ القادم إلى البلاد استمرار الممارسات التي ترسخ عجز الميزان التجاري والحساب الجاري وميزان المدفوعات، بالصورة التي تعجز الحكومة في التعامل معها إلا من خلال الاندفاع نحو زيادة القروض الخارجية والتوسع في الاستدانة، بينما يظل الحل الجذري لتلك المشكلة، التي كلفت المصريين وستكلفهم أثماناً باهظة، مادية ومعنوية، بعيداً عن عقول المسؤولين الحكوميين الحاليين، كما كان الحال مع من سبقوهم، خلال العقد الأخير.
عانت الحكومة المصرية عجزاً في الحساب الجاري، تجاوز 15 مليار دولار خلال كل عام من الأعوام السبعة الأخيرة، وهو ما كان كفيلاً بإضعاف قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار بصورة كبيرة، تضاعف من آلام المصريين التي بدأت مع اتخاذ قرار تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2016، إلا أن البنك المركزي كان له توجه آخر في التعامل مع هذه المشكلة.
تراجع البنك المركزي المصري، بصورة غير معلنة، عن قرار تعويم الجنيه، رغم تحمّل تكاليفه الضخمة على الحكومة والمواطن المصريين، وشرع في تحديد سعر تداول العملة المحلية مقابل الدولار كل يوم من خلال أذرعه في السوق من البنوك المحلية، بدلاً من تركه لقوى العرض والطلب.
لم يحدد البنك السعر وفقاً لقوى السوق، بل اتخذ قراراً بتقوية الجنيه مقابل الدولار بنسبة تجاوزت حالياً 12% في عامين، وهو ما خالف كل التوقعات "الرشيدة"، وكل القواعد التي تحكم تحديد سعر الصرف في بلدان العالم.
اعتمد البنك في تنفيذ قراره على ما يحصل عليه من قروض من صندوق النقد والبنك الدوليين ومن خلال طرح السندات في السوق العالمية، فارتفع الدين الخارجي لأكثر من 125 مليار دولار، تمثل أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل خمس سنوات فقط، ولم تُحل المشكلة، بل رُحِّلَت.
وبداية الأسبوع الحالي، حذّر روبين بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي التابع لمجموعة البنك الدولي، من اعتماد الحكومة المصرية على الأموال الساخنة التي تأتي للاستثمار في أذون الخزانة بالعملة المصرية لارتفاع العائد عليها، واصفاً تلك الحالة بـ"التوازن غير المرغوب فيه"، مؤكداً أن الثمن المدفوع لتحقيق ذلك التوازن سيكون باهظاً على المصريين.
وأكد المحلل الكبير، الذي عمل لفترة مسؤولاً عن استراتيجيات تغيير العملة لدى بنك الاستثمار الشهير جولدمان ساكس، أن الجنيه المصري استنفد كل مكاسب تخفيض قيمته في 2016، وهو ما انعكس على قيمته الحقيقية وفقاً للميزان التجاري للبلاد، محذراً من تعرضه لضغوط كبيرة مع استمرار معدلات الفائدة على سندات الخزانة الأميركية في الارتفاع الذي بدأته مطلع العام الجاري.
حذّر الكثيرون من سياسة البنك المركزي الخاصة بمنح الجنيه المصري قوة مصطنعة، والتوسع في الاعتماد على القروض، فكان رد الفعل الرسمي وصف تلك التحذيرات بالتآمر للإضرار بالاقتصاد وتدمير الدولة، لكن التحذير يأتي هذه المرة من اقتصادي كبير لديه خبرات واسعة، فهل يجري تحكيم العقل، أم يضاف السيد بروكس إلى قائمة المتآمرين على البلاد؟