جحا ومعجزة الاحتياطي

06 مايو 2018
تحذيرات من الإفراط في الاقتراض الخارجي (GETTY)
+ الخط -


أب مصري "فهلوي حبتين" وكمان ذكي، أراد أن يدخل السعادة على قلوب أولاده، لكن على طريقته الخاصة وبأسلوب هو أقرب للخداع، من وقت لآخر يوهم من حوله أن لديه أموالاً كثيرة وسيولة، وأن بحوزته نقوداً ليست فقط بالعملة المحلية، بل بعملات أجنبية مثل الدولار الأميركي واليورو والإسترليني والفرنك السويسري وأحيانا الين الياباني، لكن في الواقع كان الأب لا يمتلك شيئاً، وأن معظم الأموال التي يحوزها عبارة عن قروض وسلف حصل عليها ممن حوله.

كان كل هدف الأب من وراء تكوين هذه الثروة المكلفة، أولا أعطاء "بريستيج" لنفسه أمام أسرته، وثانيا منح "بريستيج" لأسرته أمام هؤلاء الذين يذكرونهم من وقت لأخر بأنهم لا يملكون مالاً.

الأب أخترع لعبة طريفة لتكوين ثروة كبيرة بالنقد الأجنبي، كان لدى زوجته ثلاث قطع من الذهب ما زالت تحتفظ بها منذ زواجهما، بالإضافة لقطع أخرى من الفضة، الزوج سحب قطع الذهب والفضة التي بحوزة زوجته ووضعها في صندوق حديدي، وقال لأسرته : "هذه بدايات تكوين احتياطي الأسرة من النقد الأجنبي الذي سيؤمن لها مستقبلها وحاضرها"، وبعدها قال لنفسه: "ها نحن انتهينا من بند الذهب والفضة، ندخل على بند تكوين السيولة بالعملات الأجنبية".

أول عملة فكر في حيازتها هي الدولار، لأن كل دول العالم تعشق الورقة الخضراء وتكتنز بها، حتى البنوك المركزية تعطيها أولوية عندما تكون احتياطياتها من النقد الأجنبي.

سمع أن جاره قدم من السعودية للتو وأن في حيازتة آلاف الدولارات، فرك صاحبنا يده وبعدها عينيه عدة مرات، وقال: "إنها البداية"، خاصة أن جاره هذا صديق عمره وزميل دراسة، ذهب الرجل لجاره وطلب منه 5 آلاف دولار.

الجار شعر بداية بالفزع من الطلب لأنه تخيل أن الرجل يطلب مساعدة وصدقة أو منحة لا ترد، فهم صاحبنا ما يدور في ذهن صديقه فبادره بالقول: "ما أطلبه منك هو قرض وليس مساعدة كما تخيلت، وسأعطيك سعر فائدة على القرض يفوق السعر الذي سيمنحه لك البنك في حال ايداع تلك الأموال لديه".

لمعت عين جاره العائد من السعودية، وقال له: "يا رجل أنا تحت أمرك، نحن أخوة وأقارب وجيران وتحت أمرك"، وغاب عنه دقيقتين ورجع له بمظروف أبيض، وقال له: "ها هي الأموال التي تحتاجها، وقّع فقط على هذه الورقة، لا أحد يضمن عمره، إذا مت سيطالبك أولادي بالمال، من الضروري أن تردها لي خلال عام، لا تنسَ"، قالها بحزم.

ذهب الرجل لأسرته فرحا، وقال لهم : "أنا معي 5 آلاف دولار وكمان 3 قطع ذهب".


بعد أيام سمع صاحبنا أن جاراً أخر عاد من الكويت، فذهب له طالبا منحه قرضاً بقيمة 4 آلاف دولار وبسعر فائدة 2.75% سنويا، كانت المهمة سهلة لأنه فاتحه على الفور في التفاصيل خاصة المتعلقة بالعائد الذي سيدفعه على القرض الممنوح، فوافق جاره بعد أن أتفقا سويا على مدة القرض وسعر الفائدة وتوثيق عقد القرض.

ذهب صاحبنا لأولاده فرحا، وقال لهم إن لدي أموالا قيمتها 9 الاف دولار و3 قطع من الذهب، فأحتضن الأولاد أباهم الثري واحتفلوا بالمناسبة وأثنوا على حكمة أبيهم الذي يعمل ليل نهار لتأمين مستقبلهم، وعلى براعته الفائقة في جمع الأموال.

كانت المحطة القادمة لصاحبنا من نصيب صديق عائد من الإمارات بعد أن قضى بها سنوات حيث كان يعمل طبيبا هناك وعاد نهائيا ومعه تحويشة العمر، قرر صاحبنا طرق الحديد وهو ساخن، كان قد علم من زوجته أن جاره سيصل اليوم قادما من أبوظبي، وما إن رأى الرجل جاره ينزل من السيارة حتى أسرع نحوه ليستقبله استقبالاً حاراً ويقدم له "بوكية" ورد فخم، وفي غمرة سعادة صديقنا العائد من السفر بهذا الاستقبال الحار همس صاحبنا في أذنه وطلب منه قرضاً عاجلاً قيمته 5 آلاف دولار لظروف أستثنائية، على أن يجلسا سويا بعد ذلك للاتفاق على التفاصيل، وتمت الصفقة بسرعة، خاصة أن صديقه العائد تخيل أن صاحبه لديه كارثة وأن زوجته في غرفة العمليات، وأن هذا القرض سينقذ حياتها.  

عاد الرجل لأسرته منتشيا وقال: "مبروك يا أولاد، بات لدينا أموال قيمتها 14 ألف دولار، بدأنا نشق طريقنا إلى عالم الثراء، وداعا للفقر والعوز والحرمان".

وكانت المحطة الرابعة لصديقنا غريبة بعض الشيء، تاجر قادم من الصين يتعامل معه من وقت لأخر حيث يشتري منه بضائع يجلبها من بكين مع كل زيارة له، كانت الميزة الوحيدة للبضاعة هي رخص سعرها، وعلى الرغم من إدراك التاجر أن صاحبنا ليس لديه القدرة المالية للشراء كان يبيع له بالتقسيط رغم رخص البضاعة حتى لا تظل البضاعة راكدة، صاحبنا أقنع التاجر بضرورة منحه سلفة 3 آلاف دولار بحجة مساعدته في ترويج بضاعته الرديئة بل وشرائها كلها، كما أنه سيمنحه فائدة عالية عليها قد تفوق عوائد التجارة التي تراجعت بسبب زيادة الجمارك وقيود الصادرات.


وتوسعت دائرة قروض صاحبنا، لدرجة أنه أقنع عددا من الجيران الذين يملكون سيولة بالنقد الأجنبي بإقراضه آلاف الدولارت لاستثمارها نيابة عنهم، لأن الشائع في المنطقة هو أن صاحبنا بات ثرياً، وأن لديه قدرة احترافية على إدارة أمواله والأموال التي يجمعها من الراغبين في الاستثمار والثراء السريع، وأنه يحقق أرباحا كبيرة، وأندفع هؤلاء المستثمرون نحو صاحبنا لإقراضه ما يملكون من أموال طمعا في الحصول على عائد عالٍ يفوق كثيراً العائد الذي يحصلون عليه من البنوك، وقفزت ثروة صاحبنا إلى 20 ألف دولار.

صاحبنا قرر أن يضاعف أمواله مرة واحدة، ذهب إلى البنوك وأودع بها ما اقترضه من جيرانه وأصدقائه ومعارفه الطيبين والبالغ قيمته 20 ألف دولار، وطلب من البنوك منحه قرضاً يعادل قيمة ما أودعه مرة واحدة، وعندما سألته البنوك عن الضمانات، وضع قدما على أخرى وقال بفخر شديد: "لدي ودائع عندكم تفوق 20 ألف دولار، إضافة للذهب والفضة"، وأستجابت البنوك بالفعل لطلب منح القرض لأن لديها ضمانات وودائع تعادل قيمة قروضها، يعني لو تعثر صاحبنا ستضع يدها على الوديعة.

ويوما بعد يوم، عرف صاحبنا أن أصدقاءه وزملاء الدراسة المقيمين في أوروبا لديهم سيولة بالدولار ويريدون استثمارها بعائد عالٍ، سافر إلى لندن، وهناك جمع آلاف الدولارات، وبعدها طار إلى باريس ليجمع آلاف اليوروهات، فالرجل باتت سمعته المعروفة و"زنقته" المستترة معروفة في أسواق المال الدولية.

لم تكن مسيرة صاحبنا في تكوين ثروة بالعملات الأجنبية مليئة بالورود بل بها بعض الأشواك، فقد واجه أول اختبار حقيقي في هذه المسيرة، فأصدقاؤه العائدون من دول الخليج طالبوه بسداد القروض التي حصل عليها قبل عام مضافا إليها سعر الفائدة، لأن موعد سدادها قد حل، ولم يعد مضغوطا ماليا لأنه بات لديه آلاف الدولارات وبات رجلا ثريا كما يعلن بداية كل شهر، هنا أقنع صاحبنا أصدقاءه الثلاثة بمد أجل السداد لفترة أخرى، لأنه سيعطيهم سعر فائدة أعلى من عائد البنوك الأميركية، وكمان لعب على الوتر العاطفي حينما قال لهم : "نحن أصدقاء وجيران، ولا بد من مساندتي في هذا التوقيت لأنكم عارفين البئر وغطاه".

ومع مواجهة هذا الاختبار الصعب وتأجيل سداد قرض رابع مستحق لصديقه التاجر مع الصين، عاد صاحبنا للانتعاش مرة أخرى وقرر استكمال مسيرته في الاقتراض، ولكن بوتيرة أسرع.

الزهر "مشي" أكثر مع صاحبنا ولعبة القروض حليت في عينيه أكثر، وكل شوية يتفاخر أمام أولاده بحيازة 30 ألف دولار ثم 40 ألف وقريبا 50 ألفاً، وربما 100 ألف دولار في يوم ما، ومع زيادة القروض تزداد ثروة صاحبنا، ومع تأجيل سداد قروض مستحقة تزداد ثروته أكثر وأكثر.

وكل ما زاد رقم ثروته يضع أصحابه الصادقون أيديهم على قلوبهم خوفا على صاحبنا من الغرق أكثر في دوامة القروض، ومن وقت لآخر ينصحونه: " كفاية قروض، ستغرق وستغرق أولادك، هذا خطر"، أنت لست فقيرا حتى تلجأ لهذه الحيل.

لكن صاحبنا لا يعبأ بهذه النصائح الصادقة، وكلما يكرر عليه أصحابه النصيحة ويطالبونه بالأعتماد على الذات والاستفادة من خبراته السابقة وإمكانيات الأسرة التي لديها بالفعل قطعة أرض تهمل زراعتها وفندق 3 نجوم لا تحسن إدارته ومشروع صغير لإنتاج العسل، يرد عليهم بتهكم وسخرية: "اسكت انت وهو يا مغرض، اسكت يا أجندة يا بتوع قطر وتركيا، أنا عارف ماذا أفعل بالضبط، حبال المصانع والزراعة والمشروعات طويلة، أنا أريد أختصار الوقت".

ولا يزال صاحبنا "دايس على العاشر" في الاقترض الخارجي وتأجيل السداد، ولا يزال أصدقاؤه خائفين عليه ويحذرونه من الوقوع في فخ الديون، ولا يزال هو يراكم الأموال السائلة ويعلن في نهاية كل شهر أن ما فعله يعد معجزة بكل المقاييس ويجب تدريسها للراغبين في إدارة أموالهم وتكوين ثروات.

دلالات
المساهمون