يفاجئ جان لوك ميلانشون الجميع بمواقفه التي تزعزع ما تواضعت عليه النخبة الفرنسية، وبقدرته على السجال على طريقة السياسيين القدامى. بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يتردد في التعبير عن رغبته في تولي رئاسة الحكومة. قد لا يبلغ هدفه ذاك، لكنه سيعيد لليسار حضوره القوي في البرلمان الفرنسي.
جاء زعيم حزب "فرنسا الأبية" ثالثاً في الدور الأول للانتخابات الرئاسية الفرنسية، وكان قريباً من خوض الدور الثاني ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. النتيجة التي حصل عليها ميلانشون أنقذت وجه ماء اليسار، الذي بدا زعيمه المكرس. وها هو اليوم يخوض معركة البرلمان ساعياً للحصول على الأغلبية.
وتبرز المواقف الاقتصادية لميلانشون، إذ دأب اليساري الذي رأي النور بمدينة طنجة المغربية في عام 1951 على الدفاع عن زيادة الأجور وتحقيق انتقال إيكولوجي قوي والسيادة الغذائية والصناعية، وتبني نظام صحي يتيح استرداد المستفيدين من خدماتهم ما أنفقوه.
لقد نشأ في أحضان اليسار منذ شبابه، حيث أسس نقابة طلابية في 1972 والتحق بالمنظمة الشيوعية الدولية ذات التوجه التروتسكي، قبل أن ينضم إلى الحزب الاشتراكي في 1974، ليصبح وزيراً منتدباً مكلفاً بالتعليم في حكومة الاشتراكي ليونيل جوسبان. اختلف مع الحزب الاشتراكي عندما دعا إلى التصويت ضد الاتفاق المؤسساتي الأوروبي، وغادره في 2008. وفي 2012، خاض غمار المنافسة في الانتخابات الرئاسية باسم جبهة اليسار، وسعى بعد ذلك إلى تشكيل تحالف موسع مكوّن من جبهة الشيوعيين وحزب الخضر والحزب الاشتراكي وفرنسا الأبية.
ووعد التحالف برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1500 يورو في الشهر، ووقف ارتفاع الأسعار وحصر سن الإحالة على المعاش في 60 عاماً، عوض التوجه الذي يريد الرئيس إيمانويل ماكرون الانخراط فيه والذي ينتظر أن يفضي إلى رفع السن إلى 65 عاماً. كانت تلك أهم التدابير التي لها علاقة بالقدرة الشرائية، التي تشغل الفرنسيين كثيراً، بينما اعتُبر البرنامج الذي يقترحه التحالف أنه سيفضي إلى زيادة الإنفاق بـ250 مليار دولار.
هذا الأمر أثار حفيظة محللين وخصوم سياسيين، حيث ركز بعضهم على أن ذلك سيؤدي إلى توسيع عجز الموازنة، بينما شدد آخرون على أنه سيزيد الضغط الجبائي على الشركات، وأبدى البعض خوفاً من المساس بتنافسية الاقتصاد الفرنسي. وقد سعى الرئيس ماكرون إلى كبح الحضور اللافت لتحالف اليسار في الحملة الانتخابية. فقد ذهب إلى أن برنامج فرنسا الأبية يتضمن العديد من الممنوعات، ونقلت عنه سخريته من ذلك التيار، معتبراً أنه قد يمنع قطع الأشجار في منازل أصحابها.
الانتخابات التشريعية الأخيرة جعلت ميلانشون في بؤرة الضوء، حيث حصل تحالف ماكرون (معاً) المكون من أحزاب الوسط على 25.75 في المائة من الأصوات يوم الأحد، بينما جاء التحالف الذي يتزعمه ميلانشون في المركز الثاني بنسبة 25.66 في المائة. وقد بدا ميلانشون سعيداً بالنتيجة التي حصل عليها التحالف، غير أنه يدرك أن الكلمة الفصل ستكون في الدور الثاني للانتخابات التي ستجرى الأحد المقبل.
هذا ما دفعه إلى الدعوة إلى الإقبال بكثرة على صناديق الاقتراع "من أجل وضع حد لـ30 عاماً من النيوليبرالية"، والتصدي لما يعتبره مخططاً يسعى عبر ماكرون إلى رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً والتوجه نحو خفض الإنفاق بـ80 مليار يورو بهدف حصر عجز الموازنة في حدود 3 في المائة.
يذهب مراقبون إلى أن تحالف الرئيس ماكرون سيحصل على الأغلبية في البرلمان، لكنها ستكون أغلبية ضعيفة، حيث ينتظر أن تعرف المؤسسة التشريعية حضوراً قوياً لليسار، فيما يبدو أن ميلانشون سعى إلى جذب الناخبين كي يحصل تحالفه على الأغلبية من أجل تكريسه وزيراً أول (رئيس حكومة). وفاجأ ميلانشون الجميع عندما خاطب الفرنسيين مباشرة بعد الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي حل فيها ثالثاً قائلاً: "انتخبوني وزيراً أول" من خلال التصويت لأغلبية من حزب "فرنسا الأبية".