وصل العائد على السندات التونسية إلى مستويات خطرة تؤشر إلى أنّ البلد أصبح قريباً بشكل غير مسبوق من التخلف عن سداد ديونه، ليتوقع محللون ماليون إعلاناً قريباً عن إفلاس الدولة التي تعاني أزمة مالية واقتصادية خانقة واضطرابات سياسية واجتماعية تحول دون قدرة البلد على تعزيز موارده أو الحصول على تمويلات خارجية مصيرية.
وتشهد نسبة العائد على السندات التونسية منذ أسابيع ارتفاعاً متواصلا، لتصل إلى مستوى 45% الأسبوع الماضي، وسط تعثر الاقتراض من صندوق النقد الدولي وعجز الحكومة عن تعبئة موارد مالية ضرورية لسد عجز الموازنة العامة.
التخلف عن سداد الديون
وجاء الصعود الحاد في العائد على السندات بعد أقل من أسبوعين من خفض وكالة موديز للتصنيف الائتماني العالمية، تصنيف تونس إلى درجة Caa2، التي تعني تعرض الحكومة والبنك المركزي إلى مخاطر مالية عالية، وهي نفس الدرجة التي منحتها الوكالة للبنان قبل شهر واحد من إعلانه التخلف عن سداد ديونه في مارس/ آذار 2020.
قال محلل المخاطر في الأسواق المالية، نادر الحداد، إنّ العائد على السندات التونسي بلغ مستويات قياسية لم تُسجل سابقاً بسبب المخاطر المحدقة بالوضع المالي للدولة، مؤكدا في تصريح لـ"العربي الجديد" أن النسبة المسجلة، يوم الثلاثاء الماضي عند 45% تجعل خروج السلطات لتعبئة موارد مالية (الاقتراض) أمر شبه مستحيل.
وأضاف الحداد أن "الاقتراض من الأسواق العالمية يحتاج إلى ضمانات عالية للمقرضين تفتقدها تونس في الوقت الحالي"، موضحا أن "البلدان التي يتجاوز عائد سندات ديونها الـ30% تصنف كبلد متعثر مالياً في الأسواق العالمية، بينما تونس تجاوزت هذه النسبة كثيراً ومن المرجح ارتفاعها أكثر".
وأكد أن "تونس في وضع مالي صعب جدا، مرجحا "الإعلان رسمياً عن التخلف عن سداد الديون" قريباً. واعتبر محلل المخاطر في الأسواق العالمية أن كل المؤشرات العلمية تؤيد فرضية تخلف تونس عن سداد أقساط الديون الخارجية المستحقة هذه السنة.
لكن آرام بالحاج، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رأى أن الأسواق المالية يمكن أن تتفاعل إيجابياً بشأن الدين التونسي بمجرد تلقي إشارات جدية عن إمكانية التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقال بالحاج في تدوينة على صفحته الرسمية على فيسبوك، إن تحسن العائد على سندات الدين التونسي مرتبط بتقدم الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها حكومة تونس بهدف إعادة برمجة ملف الدولة على جدول أعمال مجلس إدارة صندوق النقد الدولي.
وأضاف أن مصادقة حكومة نجلاء بودن على مشروع قانون إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية خطوة مهمة نحو التقدم في الإصلاحات التي تسهّل إعادة برمجة ملف تونس لدى صندوق النقد الدولي.
وتبلغ احتياجات تونس لسد عجز موازنة العام الجاري نحو 23.5 مليار دينار (7.5 مليارات دولار). ولتحقيق التوازن المالي، يتعيّن على الدولة اللجوء إلى الاقتراض الخارجي للحصول على نحو 4 مليارات دولار، وكذلك طرح أدوات دين محلية بما يعادل 3 مليارات دولار.
ولا تزال تونس تكابد من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار مقابل حزمة إصلاح اقتصادي تواجه صداً من الأطراف الاجتماعية.
حلول نادي باريس
ويمثل قرض صندوق النقد طوق نجاة لتونس لتجنب سيناريوهات التخلف عن سداد الدين والذهاب إلى حلول نادي باريس، بينما يقول خبراء اقتصاد إن البلاد قاب قوسين من حلول نادي باريس وجدولة الدين الخارجي.
ورأى محسن حسن وزير التجارة الأسبق، أن جر تونس إلى حلول نادي باريس يشكل مخاطرة كبيرة وضربة موجعة للاقتصاد المحلي، مؤكدا أن هذا القرار يتخذ بتوصية من صندوق النقد الدولي بعد التأكد من عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها وسداد أقساط الديون التي يحل أجلها.
واعتبر حسن لـ"العربي الجديد" أن سلطة تونس ما زالت تملك هوامش مناورة لتجنّب سيناريوهات خطيرة، غير أن هذه الحلول تتطلب إدارة إصلاح تجتمع حولها مختلف القوى الفاعلة في البلاد.
وأوصى بضرورة إيجاد حلول تبعد البلاد عن شبح الذهاب الي نادي باريس ومن بينها الإعلان عن اكتتاب وطني بالعملة الصعبة يشارك فيها التونسيون في الخارج من أجل تعبئة موارد بالعملة الصعبة تخصص لتغطية الدين الخارجي.
وبعث توقيع الاتفاق المبدئي لقرض صندوق النقد الدولي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بإشارات إيجابية إلى الأسواق العالمية حيث أوصى تقرير لبنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان"، حينها بالاستثمار في السندات التونسية قصيرة المدى، مرجحاً تحسن العائد على هذه السندات مع توصل البلاد إلى اتفاق مالي مع إدارة الصندوق.
وقال البنك في تقرير له حينها إن الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، مع إجراءات الإصلاح التي تعتزم السلطات تنفيذها، يفتح مصادر تمويل أخرى بما يجعل الاستثمار في السندات قصيرة المدى لعامي 2023 و2024 مهماً.
في المقابل، اعتبر تقرير بنك الاستثمار أن الرؤية لا تزال غير واضحة بالنسبة لسندات الدين طويلة المدى، مشيراً إلى أن العائد على هذا الصنف من الديون مرتبط بالتزام سلطات تونس بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة. لكن سلطات تونس لم تنجح في توقيع اتفاق نهائي بسبب تعثر الإصلاحات الاقتصادية والأزمة السياسية التي تزيد غموض الوضع في البلاد.
ورأى نائب رئيس البنك الدولي المكلف بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا فريد بلحاج، أن الإنقاذ في تونس لا يزال ممكنا بما يبعد البلاد عن شبح الذهاب إلى حلول نادي باريس، مؤكدا أن التوافق بشأن الإصلاحات بين الحكومة وباقي الفاعلين الاجتماعيين مهمة جدا لإنجاحها والتسريع في تنفيذها.
التحكّم في كتلة الأجور
وقال بلحاج في حديث لإذاعة "موزاييك " المحلية، الجمعة الماضي، إن توصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يلغى فرضية الذهاب إلى نادي باريس. واصفاً الوضع الاقتصادي في تونس بالدقيق، لوجود مشاكل تتعلّق بالإصلاحات التي يجب إنجازها وكلّ تأخير في تنفيذها سيرفع في التكلفة.
وأضاف أنّ العديد من شركاء تونس يرغبون في مساعدتها، ولكن على تونس "مساعدة نفسها " قبل ذلك من خلال الشروع في تنفيذ الإصلاحات المتعلّقة بالمؤسّسات العمومية والتحكّم في كتلة الأجور خاصة.
وأكد بلحاج أنه لا يوجد أمام سلطات تونس هوامش مناورة كثيرة سوى الشروع في تنفيذ الإصلاحات الضرورية سريعاً وإيجاد أرضية توافق مع كل من الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، معتبرا أن التوافق مع المنظمات الكبرى في البلاد مهم للمرور إلى مرحلة الإصلاح المجدي.
لكن الواقع الاقتصادي والمالي يشير إلى مواجهة محاولات الإنقاذ صعوبات بالغة في إخراج البلد من عثرته. ونهاية يناير/كانون الثاني الماضي، خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني العالمية، تصنيف تونس إلى درجة Caa2، التي تعني تعرض الحكومة والبنك المركزي إلى مخاطر مالية عالية، وهي نفس الدرجة التي منحتها الوكالة العالمية للبنان قبل شهر واحد من إعلانه التخلف عن سداد ديونه في مارس/ آذار 2020.
وقالت "موديز" في تقريرها إن خفض التصنيف الائتماني "يعود لعدم وجود تمويل شامل حتى الآن لتلبية احتياجات الحكومة مما يزيد من مخاطر التخلف عن السداد"، مضيفة أنّ عدم تأمين برنامج تمويلي جديد من قبل صندوق النقد الدولي على الرغم من التوصل إلى اتفاق إطاري مع تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أدى إلى تفاقم وضع التمويل الصعب وزيادة الضغوط على احتياطي النقد الأجنبي للبلاد.
وتقترب تونس من السيناريو اللبناني، إذ سبق أن خفضت "موديز" تصنيف لبنان في فبراير/ شباط 2020 إلى درجة Caa2، لتخرج الحكومة اللبنانية بعدها بنحو شهر واحد وتشهر تخلفها عن سداد الديون، بعد أن بلغت احتياطات البلاد من العملة الصعبة مستويات حرجة في ظل انهيار مالي خطير.