انتظر التونسيون شهوراً طويلة لتحسن أوضاعهم المعيشية المتردية وكبح موجة الغلاء المتوحشة، فإذا بها تسوء أكثر يوما بعد يوم من دون بارقة أمل في الطريق.
وانتظر أكثر من 600 ألف من موظفي الحكومة رفع رواتبهم وتحسين دخولهم، فإذا بتلك الدخول الضعيفة أصلا تتآكل بسرعة بسبب موجة التضخم وغلاء الأسعار.
لن أتحدث هنا عن العاملين في القطاع الخاص الذين يواجهون أوضاعا متردية من ضعف أجور وفصل تعسفي وهدر حقوق وإغلاق مواقع العمل وتصفية مصانع وأنشطة إنتاجية وغيرها من الظروف الصعبة التي يمرون بها.
انقلاب قيس سعيد أدخل البلاد في فوضى على كل المستويات السياسية والاقتصادية، ورسخ سلطة الاستبداد وحكم الفرد
وانتظر قطاع الأعمال والشركات في تونس تحسّن بيئة الاستثمار، وعودة الاستقرار السياسي للشارع، والحيوية للأنشطة الاقتصادية ومنها السياحة والصادرات، وتدفق رؤوس الأموال الخارجية، فإذا به يجد نفسه أمام حقبة طويلة من حالة التردي والفشل الاقتصادي والغموض السياسي عمّقها انقلاب قيس سعيد الذي جرى يوم 25 يوليو/تموز 2021 وأدخل البلاد في فوضى على كل المستويات، ورسخ سلطة الاستبداد وحكم الفرد، وأعاد شبح الديكتاتورية إلى البلد الذي انطلقت منه ثورات الربيع العربي.
حتى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار لا تزال متعثرة، بعد أن فشلت حكومة سعيد في إقناع المؤسسة المالية بوجود توافق مجتمعي على شروط القرض ومنها تجميد الأجور وربما خفضها وبيع عدد من البنوك والشركات التابعة للدولة وغيرها.
ببساطة اكتشف الشارع التونسي أن وعود قيس سعيد بالرفاه والثراء ومكافحة الغلاء وتحسين الأوضاع المعيشية وزيادة الرواتب وتوفير فرص عمل للشباب ومقاومة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة كانت براقة، وبهدف شراء الوقت ليس إلا.
اكتشف الشارع أن وعود قيس سعيد بالرفاه ومكافحة الغلاء وزيادة الرواتب ومقاومة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة كانت بهدف شراء الوقت
بل كانت تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس التونسي على مدى الشهور الماضية هلامية ولم تخرج عن نطاق الوعود الإعلامية الخادعة حتى يمرر الرجل انقلابه الناعم على الدستور والمؤسسات والحكومة المنتخبة.
ويبدو أن الشارع طفح به الكيل، وأنه لم يعد يصدق أي وعود صادرة عن قيس سعيد وحكومته العرجاء التي لا طعم لها ومنزوعة الصلاحيات، وأن حكومة نجلاء بودن فشلت بامتياز في تحقيق أي وعد للمواطن وقيمة مضافة للاقتصاد.
ومن هنا قرر تحرك رجل الشارع الذي يقوده الآن الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر المؤسسات النقابية والمنظمات في تونس وأهمها، والذي قرر عدم المشاركة في مسرحية الحوار الوطني التي اقترحها الرئيس التونسي من أجل "جمهورية جديدة" وأقصى فيها القوى المدنية.
والأهم من ذلك هو انضمام اتحاد الشغل للمواطن وموظفي الحكومة حين أقرّ، يوم الاثنين، مبدأ الإضراب العام في القطاع الحكومي احتجاجا على تباطؤ المفاوضات بخصوص زيادة الرواتب مع حكومة نجلاء بودن.
الأوضاع في تونس مرشحة للتوتر وربما الصدام بين المواطن والحكومة، صدام قد لا يستطيع نظام قيس سعيد احتواءه بعد أن عجز عن تسويق انقلابه الناعم، وفشل في إقناع الشارع به طوال 10 شهور، كما فشل حتى في وقف موجة الغلاء وتحسين أحوال المواطن المعيشية.