تونس إلى أين؟

05 اغسطس 2021
فجوة تفصل مدن الساحل المتوسطي عن مدن الداخل (Getty)
+ الخط -

إلى أين تسير تونس؟ أهي صحوة الموت، أم غفوة الحياة، كما يتساءل شاعر الرومانسية كامل الشناوي؟ 
منذ مقتل محمد البوعزيزي، في تونس الخضراء، يوم 4 يناير/ كانون الثاني 2011، ولون تونس ينتقل من الأحمر، إلى الرمادي، إلى الأسود، إلى اللالون، وأخيراً إلى تونس قوس قزح.
اقتصاد تونس، وفق آخر التقارير، اقتصاد متوسط الدخل بين دول العالم (حوالى 3600 دولار معدل دخل الفرد في السنة)، وناتج محلي إجمالي أقل من أربعين مليار دولار، وتوزيع أقرب إلى الانحياز للأغنياء، وفجوة تفصل مدن الساحل المتوسطي عن مدن الداخل. ويبلغ عدد سكان تونس حوالى 11 مليون نسمة، وسجلت عام 2020 معدل نمو أقرب إلى الصفر.
تونس تشبه الأردن في أمورٍ كثيرة. لقد أصبح عدد السكان فيهما متقارباً، ومعدل دخل الفرد أعلى في الأردن بقليل منه في تونس. وكلا البلدين متشابهان في غياب مصادر الطاقة الأحفورية، ويستمتع كلّ منهما بقوى بشرية مدرّبة. وقد تمكّن البلدان من تحقيق معدّلات نمو جيدة حتى أزمة الاقتصاد الدولي التي انفجرت في عام 2008، وعانى كلاهما من انتكاسة العقار، وكبر المديونية.
وعندما انفجرت في تونس بدايات الربيع العربي، بعد مقتل محمد البوعزيزي، تبيّن أنّ الأردن وتونس يعانيان من البطالة بين صفوف الشباب، خصوصاً أنّ مخرجات التعليم والتكوين المهني فيهما توفر للسوق أعداداً كبيرة من الخرّيجين والخرّيجات تفوق حاجة السوق المحلية وقدرتها الاستيعابية.

وبسبب نقص الطلب في أسواق تصدير العمالة في دول الخليج بالنسبة إلى الأردن، وأوروبا بالنسبة إلى تونس، اندلعت التظاهرات والاحتجاجات في تونس أيام الرئيس زين العابدين بن علي. 
وعلى الرغم من أنّ الأخير أحاط نفسه بهالةٍ من الهيبة الكبيرة المدعومة بنظام استخباراتي غير متسامح، فإنّه لم يتحمّل سوى أيام عدة قبل أن يسقط، ويظهر للناس أنّه لم يكن سوى نمر مِنْ ورق.
أما الربيع العربي في الأردن، فقد بقي ربيعاً، وذلك لأنّ الأردن وأهله تعلموا أنّ نظامهم السياسي رحيم ورؤوف. ولا يستخدم العصا بقدر ما يستخدم الجَزَرة. وفي الوقت الذي ضُرِب فيه المتظاهرون في دول عربية أخرى، كان عناصر الدرك والأمن الأردني يوزّعون ماءً وعصيراً عليهم.
وبعد إجراء الانتخابات، وفوز الإسلاميين في تونس، تبين أنّ تونس لم تكن متديّنة، بقدر ما كانت هناك ازدواجية ثقافية دينية، فالشاطئ التونسي في غالبيته متأثر بالثقافة الفرنسية العلمانية.

أما الداخل التونسي، الذي تقوده القيروان، حيث مسجد عقبة بن نافع وصومعته الشهيرة، وحيث جامعة الزيتونة من أقدم جامعات العالم، نرى الناس أكثر محافظةً وتديناً وافتخاراً بالمذهب المالكي.

الاقتصاد التونسي الساحلي خدمي، وصناعاته وسيطة، ومنفتح أكثر على العالم. أما الداخل، فهو اقتصاد زراعي، وصناعة زراعية، وطقس أقل رحابة، ومناخ أكثر صحراوية.

وكان لا بدّ لهذه الازدواجية من أن تعكس نفسها في التنافس على الحكم والمصالح. فالاقتصاد التونسي الساحلي خدمي، وصناعاته وسيطة، ومنفتح أكثر على العالم. أما الداخل، فهو اقتصاد زراعي، وصناعة زراعية، وطقس أقل رحابة، ومناخ أكثر صحراوية. لكنّ الحركة الاسلامية والعلمانيين لم يدخلا في حربٍ شرسة.

وقبل الطرفان بحكم صناديق الاقتراع. وللإنصاف، لمّا خسر الإسلاميون، وتبين أنّ أفكارهم تحتاج إلى تمهيد وإقناع، وأنّ تجربتهم في الحكم غير ناضجة، وبحاجة إلى مزيد من الذكاء السياسي، وتغير المزاج العام ضدهم، فإنّهم قبلوا النتائج، على الرغم من أنّ الشعب التونسي كان يعترف بفضلهم في تغيير نظام زين العابدين بن علي في المرة الأولى، ثم انقلب عليهم، ففاز صديق الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهو المرحوم الباجي قائد السبسي. وقد نزعت البلاد في عهده نحو الهدوء، لكنّ الأحزاب دخلت في جدليات كثيرة بشأن نظام تونس، وأنموذجه في الحكم. 

حاول الرئيس السبسي استمالة أثرياء العرب إليه ودعوتهم إلى المشاركة في مؤتمر تونس للاستثمار، الذي عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 في مسعى منه لتنشيط الاقتصاد الوطني، لكن لم يحضر من الزعماء العرب سوى أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد، الذي قدّم حينها حزمة من الدعم المالي بقيمة 1.25 مليار دولار، وقدّم نائب رئيس الصندوق السعودي للتنمية، يوسف البسام 500 مليون دولار، وكذلك فعل المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية، عبد الوهاب البدر، الذي أعلن تقديم 500 مليون دولار أيضاً.
وانتهت فترة حكم الرئيس الباجي قائد السبسي، وجرت انتخاباتٌ كاد فيها نبيل القروي، صاحب محطة تلفزيون "نسمة" أن يقارب الفوز وينجو من المحاكمة بتهمة الفساد. لكنّ الرئيس الحالي قيس سعيّد، فاز بأغلبية واسعة بعد جولتين. 
وظهرت إلى السطح المنازعات والمناكفات بين حزب النهضة، ممثلاً للتيار الديني، والأحزاب العلمانية والممثلة لأفكار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

انتهت فترة حكم الرئيس الباجي قائد السبسي، وجرت انتخاباتٌ كاد فيها نبيل القروي، صاحب محطة تلفزيون "نسمة" أن يقارب الفوز وينجو من المحاكمة بتهمة الفساد.

أما الرئيس نفسه، قيس سعيّد، فهو وإن كان فكره الديني قوياً، لكنّه ليس متحزّباً لطرف دون الآخر. وهو لذلك ينظر إلى نفسه على أنه الممثل الحقيقي للشعب التونسي، الذي اختاره أملاً في أن يتصدّى للفساد الذي لم يتوقف منذ الربيع العربي، بل ازداد شراهة، وهو يريد أن يوجِد نظاماً في تونس، يقوم في خُلقه ومعاملاته وآدابه على الإسلام، لكنّه لا يريد أن يجعل الإسلاميين المتحكّمين في الإدارة، بل يريد، حسب ما أفهمه، أن تدار الدولة من أُناس متكرسين للعمل العام، نظاف القلوب والأيادي والجيوب، وأن يستعيدوا ثقة الناس بهم.
دعونا نرى إذا كانت تونس ستعود ثانية إلى ضرب المثل في توزيع الأدوار بين القيادة والشعب والأحزاب، ونراقب مدى نجاح تونس في تقديم المثال على حسن الإدارة، والحوكمة والشفافية، ونجاح تونس أو الأردن في هذا الأمر يبقيهما مصدر أمل للاقتصادات والنظم السياسية العربية.

المساهمون