أسقطت الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس، عشرات آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في دوامة الإفلاس، لتعج أروقة المحاكم بقضايا الشيكات دون رصيد، وسط قلق متزايد من امتداد التعثر إلى المصارف والمؤسسات المالية التي قدمت قروضاً لآلاف الشركات المثقلة بالديون والملاحقات.
وامتنعت الكثير من البنوك ومؤسسات الإقراض عن هيكلة ديون المتعثرين أو منحهم تسهيلات جديدة تقيهم من عثرتهم، ما اضطر 88 ألف مؤسسة صغرى ومتوسطة إلى الإغلاق نهائياً، فيما تواجه 54 ألف مؤسسة أخرى شبح الإفلاس بحسب أرقام رسمية صادرة عن معهد الإحصاء الحكومي أخيراً.
ويمثل ارتفاع وتيرة غلق المؤسسات الصغرى والمتوسطة تهديداً لآلاف العائلات، التي بات أفرادها مهددين بالسجن بسبب قضايا الشيكات دون رصيد، وسط تحذيرات من تفكك أهم نسيج اقتصادي في البلاد الذي يوفر الكسب لحوالي مليوني شخص من القوى العاملة.
10 آلاف شخص من أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة يقبعون في السجون، فيما لا يزال أكثر من 18 ألف مطاردون من القضاء بسبب تعثر مشاريعهم وتضييق البنوك على المقترضين
يقول رئيس جمعية المؤسسات الصغرى والمتوسطة، سفيان القابسي لـ"العربي الجديد" إن 10 آلاف شخص من أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة يقبعون في السجون حالياً، فيما لا يزال أكثر من 18 ألف مطاردون من القضاء بسبب تعثر مشاريعهم خلال العامين الأخيرين وتضييق البنوك على المقترضين.
ويضيف القابسي أن البنوك لا تبدي أي مرونة مع المتعثرين والمتخلفين عن سداد القروض أو استحقاق الشيكات، مشيرا إلى أن صغار المستثمرين مقصيون من الوصول إلى خطوط التمويل، وهو ما يدفع بهم إلى الإفلاس النهائي ومواجهة المحاكم.
ويلفت إلى أن المؤسسات الصغرى والمتوسطة تشكل أكثر من 90% من النسيج للاقتصادي للبلاد، غير أن خطر التلاشي بات يهدد هذا النسيج الهش، مضيفا أن "السجون تستقبل يوميا مستثمرين صغارا في قضايا الشيك من دون رصيد".
وتنظر المحاكم التونسية يومياً في نحو 567 قضية شيك من دون رصيد، جزء منها يعود لصغار المستثمرين الذين لم يتمكنوا من إيجاد تسويات مالية مع المتعاملين ولم تقبل البنوك تغطية ديونهم عبر قروض جديدة، وفق القابسي، الذي يشدد على ضرورة إعادة النظر في قوانين الشيكات الخاصة بصغار المستثمرين وتوفير خطوط تمويل جديدة ميسرة بما يسمح باستدامة عمل الشركات الصغرى والمتوسطة.
ويتابع أن الشيك أضحى وسيلة الدفع الوحيدة المتاحة لأصحاب الشركات الصغرى والمتوسطة، بسبب عزوف البنوك التجارية عن تمويل المعاملات التجارية لهذه النوعية من الشركات، لافتا إلى أن ما وصفها بـ"رحلة السقوط الحر" للشركات الصغرى أصبحت أكثر سرعة وتواتراً بعد جائحة كورونا.
ويساهم الوضع الاقتصادي المتردي وأزمة المالية العمومية في تفاقم مشاكل أصحاب المشاريع والمؤسسات بسبب المنافسة غير المتكافئة مع الكيانات الكبرى التي تحتكر السوق، وفق خبراء اقتصاد.
يقدر عدد المتورطين في قضايا شيكات من دون رصيد بأكثر من 50 ألف شخص منهم ما لا يقل عن 10 آلاف اضطروا إلى الهروب خارج البلاد
ويقدر عدد المتورطين في قضايا شيكات من دون رصيد بأكثر من 50 ألف شخص منهم ما لا يقل عن 10 آلاف اضطروا إلى الهروب خارج البلاد رغم إقرار العديد من الإجراءات بشأنهم بحسب منظمات قانونية.
وكشفت دراسة أجراها البنك الدولي عام 2014 أن 29% من أصحاب الشركات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر لم يحاولوا على الإطلاق فتح حساب بنكي. وبيّنت الدراسة أن 78% منهم يدفعون نقدا لمزوديهم (موردي مستلزمات الإنتاج والبضائع) وأن 91% يدفعون لموظفيهم نقداً أيضاً.
ويقول الخبير المالي خالد النوري لـ"العربي الجديد" إن النسيج الاقتصادي في البلاد يتشكل من أكثر من 740 ألف مؤسسة متوسطة وصغرى ومتناهية الصغر تواجه معظمها مخاطر التعثر وصعوبة النفاذ إلى التمويل المصرفي.
ويضيف النوري أن "الشيك هو الأداة الرئيسية للدفع التي يعتمد عليها صغار المستثمرين وأصحاب المهن لتسيير أعمالهم، غير أن ارتفاع مخاطر التعثر المالي يدفع بالعديد منهم إلى مواجهة قضايا الشيك من دون رصيد".
خبير مالي لـ"العربي الجديد": النسيج الاقتصادي في البلاد يتشكل من أكثر من 740 ألف مؤسسة متوسطة وصغرى ومتناهية الصغر تواجه معظمها مخاطر التعثر وصعوبة النفاذ إلى التمويل المصرفي
ويتابع: "للأسف، هؤلاء تُركوا لمصيرهم بعد جائحة كورونا، نتيجة تأخر قانون المالية التكميلي (الموازنة العامة) الذي كان يفترض أن يتضمن إجراءات لتخفيف العبء المالي والضريبي على الشركات المتأثرة من الحجر الصحي والانكماش الاقتصادي".
ويرجح النوري أن يتسبب غياب الخطط الرسمية للإنعاش الاقتصادي وتعطل مؤسسات الحكم في البلاد في ارتفاع وتيرة غلق المؤسسات واندثار بعضها وارتفاع نسب البطالة في ظل موجات تسريح العمال، مضيفا أن اقتصاد تونس دخل غياهب المجهول منذ التدابير الاستثنائية (التي أقرها الرئيس قيس سعيد) في 25 يوليو/ تموز الماضي.