تونسيون يلجأون إلى الهجرة هرباً من الأزمات

تونسيون يلجأون إلى الهجرة هرباً من الأزمات

12 اغسطس 2023
الذهاب للمطار من أجل السفر إلى خارج البلاد أصبح حلم الكثير من التونسيين (الأناضول)
+ الخط -

لم تكن هاجر دربال (36 عاماً)، التي تعمل مهندسة برمجيات كمبيوتر، في حاجة إلى الأموال للبحث عن ظروف عيش أفضل خارج وطنها تونس، لكنها مع تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية قررت أخيرا بصحبة زوجها وطفليها الهجرة إلى كندا بعد الحصول على عقد عمل في مدينة "كيباك" حيث ستؤسس حياة جديدة.

تقول هاجر دربال في حديثها لـ"العربي الجديد"، إنها قررت سريعا تصفية كل الأصول التي تملكها أسرتها وعرضت شقتها في أحد الأحياء الراقية في العاصمة تونس للإيجار، كما نشرت العديد من الإعلانات لبيع أثاث المنزل وسيارتين لجمع مبلغ مهم من المال يساعدها على الاستقرار في المهجر.
وتؤكد المتحدثة أنها اتخذت قرار الهجرة منذ ما يزيد عن السنتين بعد مناقشات أسرية انتهت بالبحث عن ظروف حياة أفضل في المهجر لطفليها اللذين بلغا سن الدراسة، معتبرة أن تونس أصبحت بلدا طاردا لأبنائه من مختلف الشرائح الاجتماعية.
المهندسة الثلاثينية ليست إلا عيّنة من عشرات آلاف التونسيين الذين غادروا البلاد خلال السنوات الأخيرة، من بينهم مهندسون وأطباء وخريجو جامعات ممن اختاروا الهجرة المنظمة، بينما يسلك آخرون طريق الهجرة غير النظامية عبر البحر أو المسالك الوعرة لدول البلقان.

وطأة الغلاء والفوضى
يعيش التونسيون في بلادهم تحت وطأة الغلاء وقلة فرص الشغل وانحسار الأفق مع تفاقم الأزمات السياسية وعجز السلطات المتعاقبة عن الاستجابة لمطالب الشغل والكرامة الوطنية التي كانت الشعارات الأساسية لثورة جانفي ـ كانون الثاني/ يناير 2011.

ويقول الباحث المتخصص في سياسات الهجرة خالد الطبابي إن الهجرة تحولت في تونس إلى مشروع أسري يتم تمويله بأشكال مختلفة حسب الشرائح الاجتماعية، مؤكدا أن تصفية الأصول وبيع العقارات من مصادر تمويل هذا المشروع.
ويفيد الطبابي في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن الأسباب الدافعة للهجرة مختلفة، حيث يهاجر الفقراء بحثا عن المال وفرص العمل من أجل تحسين وضعهم الاجتماعي، بينما يهاجر الكوادر وأصحاب الشهادات العليا بحثا عن ظروف عيش أفضل وتعليم جيد لأبنائهم.
ولاحظ الباحث في سياسات الهجرة أن تونس شهدت خلال السنوات الأخيرة نزيف هجرة غير مسبوق بسبب حالة الإحباط واليأس التي تسيطر على المواطنين بمختلف شرائحهم الاجتماعية، فضلا عن غياب الأفق مع تواصل الأزمات السياسية وتشعبها وغياب حلول للملف الاقتصادي.
وتابع: "بيع الأصول لتمويل مشاريع الهجرة ليس حكرا على الطبقات الميسورة"، مؤكدا أن الأسر في الأوساط الشعبية والريفية انخرطت أيضا في هذه الظاهرة عبر تصفية أصول زراعية وبيع المواشي من أجل تمويل رحلات هجرة غير نظامية لأبنائها.

أصول معروضة للبيع
ويؤكد صاحب وكالة العقارات غازي بن علي ارتفاع الأصول المعروضة للبيع من أجل تمويل مشاريع الهجرة، مؤكدا أن العديد من الراغبين في الاستقرار في بلدان أخرى يعرضون شققهم للإيجار على المدى الطويل أو للبيع.
وأشار بن علي في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن هناك من يقدم للوكالة عرضا لبيع شامل للأصول تتضمن الشقة والسيارة والأثاث مقابل عمولة تصل إلى 20 بالمائة.
وأفاد المتحدث بأن أغلب هؤلاء لا يتجاوزون سن الأربعين ويعملون في اختصاصات هندسية أو طبية أو أنهم مدرسون في الجامعات.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وحسب أحدث الأرقام الصادرة عن المرصد الوطني للهجرة (حكومي)، ارتفع عدد التونسيين في الخارج إلى 1.5 مليون تونسي، حيث يغادر سنويا نحو 36 ألف تونسي لعدة اعتبارات أهمها الاقتصادية والاجتماعية.
ويفيد المرصد في أحدث دراساته الصادرة عام 2021 بارتفاع هجرة الأدمغة في اختصاصات الهندسة الرقمية والطب، مشيرا إلى أن عديد العوامل التي تدفع هذه الفئات إلى مغادرة البلاد أبرزها اقتصادي أو اجتماعي، بالإضافة إلى نقص مجالات التدريب والبحوث والظروف المعيشية التي أصبحت لا تتلاءم مع طموحاتهم.

هجرة المهندسين والأطباء
ذكر المرصد الوطني للهجرة أنّ 39000 مهندس و3300 طبيب غادروا البلاد بين سنوات 2015 و2020 من أجل فرص عمل بالخارج، وهي فترة شهدت طفرة في هجرة الكفاءات والأدمغة، خاصّة الاختصاصات المميزة كالهندسة والطب، كما أنّ 55.5 بالمائة من المهاجرين الحاليين صرحوا بأنهم يزاولون نشاطا مهنيا في بلد المهجر.
كما كشفت آخر دراسة ميدانية قام بها المرصد أن 65 بالمائة من المستجوبين من فئة الشباب يرغبون في الهجرة، وأن حوالي 40 بالمائة من الشباب يفكرون في الهجرة حتى ولو كانت غير نظامية.
ويرى الباحث في سياسات الهجرة خالد الطبابي أن مشروع الهجرة أصبح قاسماً مشتركاً يوحّد التونسيات والتونسيين، كل حسب شروط يفرضها وضعه المهني والاجتماعي ودرجة استجابته للسياسات التقييدية التي تفرضها خاصة دول الاتحاد الأوروبي على التأشيرة، معتبرا أن الاتحاد الأوروبي ينتقي ما يستجيب لاحتياجاته ويلفظ الباقي لتتلقفهم شبكات تهريب المهاجرين.
تتزايد معاناة التونسيين مع تراجع كبير في الخدمة العامة التي تسيّرها الدولة ومن أهمها النقل والتعليم والتموين، بسبب العجز عن تدبير التمويلات اللازمة لتسيير الأعمال، وسط مخاوف من تصاعد حدة الأزمات المعيشية مع إقدام الحكومة على سياسة تقشفية واسعة تطاول دعم السلع الأساسية وتقليص الوظائف بمقتضى اتفاق متوقع مع صندوق النقد الدولي، ما يجعل سنواتهم القادمة أكثر صعوبة.

ضغوط معيشية متزايدة
يصف المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجه تونس بالقاسية، إذ تتسبب في تعطل العديد من المرافق العامة وعدم قدرتها على تقديم الخدمات بشكل جيّد، مؤكداً أنّ ذلك يكّرس هشاشة الطبقات الضعيفة (الفقيرة) والمتوسطة، التي تفقد تدريجياً حقوقها الأساسية في الصحة والتعليم والتنقل.

وقال بن عمر إن من أبرز أسباب الهجرة في تونس هو عدم قدرة شرائح واسعة من التونسيين، ومنهم الميسورون، على تحمل المزيد من الضغوط المعيشية وانعدام وضوح الرؤية بشأن مستقبل أبنائهم، ما يجعل تونس بلدا طاردا لأبنائه من مختلف الشرائح الاجتماعية.
ويؤكد المتحدث، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ الحقوق الأساسية المكفولة بالدستور لعموم التونسيين في تراجع متواصل بسبب أزمة التمويل، مشيراً إلى تراجع القدرة الإنفاقية لنحو 40% من المواطنين، وهو ما ينتج عنه انهيار سريع للطبقة المتوسطة التي كانت تشكل أكثر من 60% من مجموع السكان في البلاد.
ويضيف أنّ "تراجع الخدمات العامة الناجمة عن السياسة التقشفية للدولة وشح التمويلات ينقل جزءاً من التونسيين من الفقر المالي إلى الفقر الشامل، الذي يسببه تعطل آليات الارتقاء الاجتماعي وأهمها التعليم والصحة والنقل".
ويفسر الفقر الشامل بحرمان الشرائح ضعيفة الدخل والتي تعاني من الفقر المالي من الخدمات الأساسية التي تساعدها على تحسين أوضاعها المعيشية، ومن بينها التعليم والنقل والكهرباء والماء.
ويلفت بن عمر إلى أنّ أكثر من 3 ملايين أسرة باتت تعاني من الفقر، مرجحاً تصاعد هذه النسبة مع بدء تطبيق اشتراطات صندوق النقد الدولي التي تقتضي رفع الدعم عن المواد الأساسية ومواصلة تجميد الأجور والانتدابات (التوظيف في القطاعات الحكومية).

أزمة بطالة الشباب
تقدر نسبة البطالة في تونس بـ16.1%، وفق أحدث بيانات معهد الإحصاء الحكومي للربع الأول من العام الجاري، بينما تبلغ نسبة العاطلين من العمل من حاملي الشهادات الجامعية 23.1%، وهي نسبة تسجل تراجعا مقارنة بمعدلات الفترة ذاتها من عام 2022 التي كانت في حدود 24%.
وتظل فئة الشباب ممن تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما الأعلى بين طالبي العمل، حيث بلغت نسبة بطالتهم 40.2% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، مقابل 38.8% خلال الفترة ذاتها من 2022.
ويلجأ شباب تونسيون إلى العمل في السوق الموازية كأحد الحلول لتحسين ظروف معيشتهم في انتظار فرصة للهجرة.
ووفق دراسة حديثة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (حكومي)، فإن عدد العاملين في القطاع الموازي بلغ 1.6 مليون شخص في 2020، وهو ما يعادل 44.8% من إجمالي اليد العاملة في البلاد.

طفرات الهجرة
يرى الخبير الاقتصادي خالد النوري أن تونس شهدت على امتداد العقود الماضية طفرات هجرة، كان هدفها الأساسي تحسين الارتقاء الاجتماعي للمهاجرين وأسرهم، مشيرا إلى بروز أسباب جديدة للهجرة في السنوات الأخيرة، من بينها عدم القدرة على التعايش مع الأزمات الاجتماعية والسياسية وانعدام الأفق الذي تتخبط فيه البلاد.

وأفاد النوري في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن هجرة الكفاءات وأصحاب الشهادات العليا وزيادة عروض تصفية الأصول بهدف المغادرة تعكس الوضع المضطرب الذي تعيشه أغلب الطبقات الاجتماعية في البلاد بما في ذلك الميسورة منها.
ويرى الخبير الاقتصادي أن أزمة التموين التي تعاني منها البلاد ستكون محفزا آخر لطفرات جديدة من الهجرة تجنّبا للضغوط الضريبية والوقوف في طوابير انتظار الخبز والبنزين والدواء وتجنبا لمزيد من الضغوط الضريبية.
ويتخوف مواطنون من زيادة الأعباء في حال توجه الحكومة لزيادة الكلفة من بنود تتعلق بالاستهلاك، مثل فرض المزيد من الضرائب على السلع والخدمات بعد إعلان التدرج نحو إصلاح جبائي يستهدف أصحاب المهن الحرة.
وصلت الحكومة في سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى اتفاق مع صندوق النقد لصرف قرض جديد بقيمة 1.9 مليار دولار، مقابل حزمة يصفها الصندوق بالإصلاحات، من بينها خفض دعم الغذاء والطاقة، وإعادة هيكلة شركات عامة تعاني عجزاً مالياً، وتقليص كتلة الأجور وتحسين التحصيل الضريبي.
أيضاً يزحف التضخم على جيوب التونسيين، مسجلاً ارتفاعاً متواصلاً منذ ما يزيد على 11 شهراً، بينما تغيب الإجراءات الحكومية للحد من تداعيات الغلاء على حياة المواطنين. وبلغت نسبة التضخم خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 9.2% وهي الأعلى منذ 30 عاماً، بينما زادت أسعار بعض المواد الغذائية أكثر من 20%.